خليل النظامي
ليست الصحافة المهنة والقطاع الوحيد الذي تعرض للعبث في شكل وطبيعة عناصر بناءه الرئيسية، فشتى القطاعات والمؤسسات والعلوم تم العبث بها وتحويرها بحسب المزاج الدولي وما تشترطة الكثير من أيدلوجيات واتفاقيات المنظمات الدولية الكبرى التي تعتبر الدول النامية حقل تجارب لمختبراتها السامة وتعمل ليل نهار وبدون توقف لـ تبقي هذه الأمة في قاع سلم الأمم. يعتبر مفهوم الصحافة لدى من لم يدرسها كـ علم وتخصص جامعي وتدرب عليها ومارسها مجرد أداة من أدوات نقل الأحداث من موقعها إلى الجماهير عبر وسيلة إعلامية معينة سواء كانت مرئي او مسموع او ورقي أو إلكتروني، الأمر الذي سهل عملية جعلها علكة سائغة يستطيع كل “هاو” أن يتذوق طعمها ويدخل تحت مظلتها وينتحل مسمياتها المهنية. وبكل أسف ومنذ عقود طويلة وتتعرض المنظومة الصحفية في الأردن للكثير من الفيروسات التي لم تدع مفصلا فيها إلا وأفسدت فيه، في ظل رقابة شبة معدومة من نقابة الصحفيين وهيئة الاعلام وغياب المسؤولية الإجتماعية والمقتضى المهني عن الكثير من الصحفيين والعاملين على صياغة معايير إدارة مدخلات الموارد البشرية للوسائل الإعلامية المتنوعة. حتى أن المناخ السياسي والإقتصادي والإجتماعي في مراحل سابقة مرت بها الأردن كان يتطلب وجود الفيروسات في المنظومة الصحفية، لـ تبعدها عن بوصلة عملها الحقيقي وما تقتضية معايير وشرف المهنة والغاية التي تنشدها في رحلتها للحقيقة، الأمر الذي مهد عملية دخول السموم الفكرية لتتم عملية نشر وترسيخ الكثير من الثقافات الدخيلة والعشوائية بسهوله في الأوساط الإجتماعية والسياسية والإقتصادية لـ تستوطن سمومها بدون رقابة. هذه الفيروسات من غير المتخصصين جعلوا من المهنة الصحفية والصحافة أداة أشبه بـ جسر تسير عليه شاحنة نقل مليئة بـ”الكرسنة” تتجه من بيدر “الحصيدة” إلى مصنع “الأعلاف”، حيث يتم حبكها بالطريقة التي يريدها صاحب المصنع وليس بحسب ما تتطلبة الفائدة العلمية والبحثية لـ نبتة “الكرسنة” سواء أكانت مفيدة أم ضارة، وعلى هذا سارت الكثير من الأجيال الصحفية وفقا لـ هذه النظرية حتى وصلت إلى “صحافة نقل ورأي هلامي، لا صحافة بحث وإستدلال وتحليل وتحري وإستقصاء”. وتزامنا مع ذلك دخلت ثورة ما يعرف بـ”منصات التواصل الإجتماعي” والتي كانت الضربة القاضية “هواة مقفي” لـ”الصحافة كـ علم ومهنة”، حيث مكن دخولها توسع وازدياد الفيروسات يوما بعد يوم وتفرض نفسها بسلطة هذه المنصات تحت مظلة الصحافة والإعلام، الأمر الذي إضطر الباحثين وعلماء الإتصال إلى إختراع مسمى جديد أطلقوا عليه إسم “المواطن الصحفي” والذي لا يدرك ولا يطبق في طبيعة تعاطية مع القضايا العامة والخاصة المعايير الخاصة بمهنة الإعلام من حيث الناحية القانونية والاخلاقية والانسانية.وما بين فيروسات الصحافة منذ القدم، وفطريات وقشور منصات التواصل الإجتماعي، باتت الصحافة غاية ينشدها كل فاشل وفاشلة، حيث أصبحت الملجأ للكثير من الجميلات اللاتي فشلن في صناعة مستقبل متخصص لهن، وكل شريد فاشل لا يجد لنفسه مكانا تنافسيا بين افراد المجتمع، الأمر الذي زاد من هلامية الصحافة كـ علم ومهنة، وجعل الكثير من مخرجاتها كـ مخرجات مراهقة ساذجة تتراقص على أغاني حسن شاكوش وحمو بيكا عبر تطبيق “التيكتوك”، ما أجبر السواد الأعظم من الجماهير على متابعة هذه الراقصة عوضا عن معرفة الأسباب التي جعلتها ترقص بهذه الطريقة البذيئة السطحية العابثة ومن ثم معالجتها.على الصعيد الشخصي،،، قد مارست هذه المهنة لـ سنوات طويلة، وتعمقت في أصولها وفلسفتها، وعمق نظرياتها، خاصة النظريات الحديثة غير تلك التي تدرس في المعاهد والجامعات بل التي تعلم في الميدان والوسط الصحفي والتي نطلق عليها وصف “الدهاليز والسراديب المهنية، وتنوع وتنقل عملي من المجلات الصحفية المتخصصة، إلى الصحف الورقية، الى المواقع الإلكترونية المحلية والعربية، وعملت سنوات طويلة في مهنة الإعلام في عدد كبير من مؤسسات الدولة الرسمية وعدد لا بأس به من مؤسسات القطاع الخاص.، اضافة الى عمل عدد لا بأس به من الأبحاث والدراسات والمساعدة في عمل الدراسات للكثير من اصدقائي من اساتذة الجامعات وطلاب الدراسات العليا في الجامعات المحلية. وإنخرطت في الوسط الصحفي والإعلامي بشكل كبير جدا، وعرفت الصالح والطالح، وعرفت قناصي الفرص ومفتعلي الأزمات، وعرفت النزية وشاهد الزور، وعرفت المهني والمبتز، وعرفت من قدموا التنازلات وعرفت أصحاب الضمائر الحية، وعرفت الرمادي المتلون، وتعرفت على الأسود ومن لا يغير لأبيض، ورأيت بأم عيني مصائد وخطط تحبك ومعارك طاحنة لا مروء فيها يطيحون بعضهم ببعض وكأنهم ألذ الأعدا ويجتمعون بنفس الوقت على طاولة مسؤول حالم وكأنهم عشاق يسكنون في المدينة الفاضلة، ورأيت الإستعراض والمستعرضين، وتابعت المفرغين ومن يتم حشو أقلامهم وأدمغتهم بكل ما هو مطلوب وحسب سعر صرف الدولار، ورأيت المهني الثابت، وتعرفت على الفارس المغوار، ورافقت مقاتلين أشداء، وتتبعت مسار من ينشد الحق ويبتغية، وفرحت لوجود أصحاب الدين وكرهت عبّاد الفرج من الفاسقين والكثير الكثير من القصص والحكايات والأفلام الدرامية والأكشن وحتى التراجيديا وجدتها. ما أود قوله وإختصارا لكل حديث،،، أن الصحافة خاصتنا لم يعد العمل بها صالح في هذه البقعة الجغرافية تحديدا، فـ الصحافة التي أنفقنا على دراستها في المعاهد والجامعات عشرات الاف من الدولارات، وبذلنا مجهود كبير وكرسنا معظم أوقاتنا برفقة المدربين والاساتذة الجامعيين المتخصصين في علوم الإتصال المحليين والعرب مختلفة تماما بشكلها ومضمونها عن معظم الصحافة التي تمارس في وقتنا الحالي، فـ صحافتنا تقوم على أعمدة فلسفية، والمئات المئات من النظريات الإتصالية، والمعايير البحثية، وسيسيولوجية وسيكلوجية المخاطبة والتعبير، والأسس الاخلاقية والتشريعية، وقدسية الزمالة المهنية، وهذا ما لم يعد موجودا في عالم الصحافة الآن فـ العشوائية والفوضى قد تسيدوا المشهد إلا من رحم ربي وهم قلة قليلة.