من دون احتكاكاتٍ وتحدياتٍ حقيقية، يصبح في مقدور أي حاكمٍ أو نظامٍ أن يبدو قوياً متماسكاً؛ من دون أزماتٍ خارجيةٍ عميقة، يمكن لأي نظامٍ أن يزعم ما شاء من القدرة والمنعة والسيطرة والنفوذ، لاسيما لو توفرت له بضعة مكوناتٍ وعوامل على رأسها، ماكينةٌ إعلاميةٌ عملاقة يسيطر عليها بصورةٍ شبه مطلقة، فتُسيِّدُ روايته للأحداث، وانحيازاته، تضافرت معها شهيةٌ وقابليةٌ لقمع معارضيه، أو حتى المتحفظين منهم على منحى سياسته ونهجه والتنكيل بهم، وأخيراً وليس آخراً جمهورٌ منهكٌ من الأساس، لم تزده تعرجات الثورة ومآلاتها إلا إرهاقاً وإحباطاً، ومن ثم، استعداداً وقبولاً للرضوخ والتسليم، أمام العنف والخوف في ما يبدو من غياب البدائل والمعارضة الضخمة المنظمة.
هكذا هي الحال مع السيسي ونظامه، الذي لم يكذب في نيته حين حذّر وأنذر من أن يناير آخر لن يأتي، فجعل من ذلك هدفاً له ولنظامه، مطلِقاً العنان تماماً لكل ما من شأنه أن يحكم قبضته على مقاليد السلطة، ومجريات الأمور، وعلى رأسها العنف اللامتناهي اللامتناسب، وخلق سرديةٍ عن الإنجاز والتصدي للمؤامرات، ومن ثم بثها والترويج لها على أوسع نطاقٍ ممكن، لتستولي على وعي أكبر عددٍ ممكنٍ من الجمهور؛ ولم يلبث أن اندفع في مشاريع ظاهرها التطوير، واكتساب وتدعيم وسائل القوة، من عينة منشآت البنية التحتية من طرقٍ وجسور، صارت مصدر الفخر الشعبي، وشاحذ الحمية والعصاب الوطنيين (وفي بعض الأحيان البارانويا) وشراء الأسلحة بحجة تطوير القوات المسلحة، والشاهد أن تلك المظاهر سقطت على قطاعٍ واسعٍ كالغيث، روى ظمأً واحتياجاً للطمأنينة، وبواعث الاعتداد بالنفس، وترميم صورة الذات الوطنية التي تتعلق بتصوراتٍ راسخةٍ في الوجدان الجمعي المصري، عن مكانةٍ ودورٍ مهمين، بل الأهم في الإقليم وبالتأكيد على مستوى العالم، وبالتالي سكَّن قلقاً وحزناً، بل فزعاً على ما كشفته الثورة مما آل إليه حال مصر، ومن حسن حظ الانقلاب (وربما من دوافعه ومسوغاته) أن دولاً فاعلة وداعمة مالياً وسياسياً على رأسها الإمارات العربية والمملكة السعودية، والقوى الخارجية ارتأت وفضلت «الاستقرار» وضمان الثبات على الترتيبات الاقليمية نفسها، والمواقف التي تتيحها وتوفرها وتتعهد بها الأنظمة القمعية التابعة.
حتى الآن لم يكن هذا النظام قد تعرض لتحدٍ حقيقي، أو امتحان، بيد أن بداية الملء الثاني لسد النهضة، هي هذا التحدي، أو الاختبار الكاشف. حتى الآن كثُر الجدل عنه وتبادُل الاتهامات بين منتقدي السيسي، الذين رأوه مفَّرِطاً اشترى التصديق على الانقلاب، والقبول في البيت الافريقي بالإمضاء وأنصاره، الذين لم ولن يعدموا الحجج والمسوغات القانونية، ودعاوى الحكمة والحنكة، وهو سجالٌ يمكن أن يستمر «حتى يتجلد الجحيم» على قالة الإنكليز. لست بصدد الخوض في هذا الجدال، ناهيك من دوافع وحق أيٍ من الطرفين، أو الاتفاقات التي تسمى بالـ»تاريخية» أو الاعتبارات الأخلاقية لتدخلٍ عسكريٍ مصري يطالب به كثيرون، من عدمها، بل أكتب لأقدم تصوراً عن ما أراها احتمالاتٍ لسلوك النظام المصري في هذه الأزمة.
أولا: التدخل العسكري من قبيل القيام بضربة السد بواسطة الطيران، أو أي عملٍ تدميريٍ أو تخريبي آخر تقوم به مصر منفردةً، أو بالشراكة مع السودان، وهو ما نرى كثيراً في الإعلام بشتى منافذه، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي يطنطنون ويطبلون له، ويطالبون به بمنتهى الجرأة والأريحية. لست خبيراً عسكرياً وبالتالي ليس لديّ تصورٌ دقيق عن مدى كفاءة وقدرة الطيران المصري، وأسلحة الدعم على القيام بعمليةٍ كتلك، على الرغم من ما قد يكون من احتمال توفر الأسلحة، إلا أن الأكيد أن السودان عرضةٌ لآثارٍ كارثية في حالة الضرب، بالإضافة إلى أن أطرافاً كثيرة ولاعبين كباراً من عينة الصين، لهم استثمارات ضخمة في هذا السد، ولسنا بحاجة إلى ذكاءٍ خارق أو بصيرةٍ ثاقبة لنفهم أن رسالة مجلس الأمن كانت بسيطة وموجزة: لا تفكروا في هذه اللعبة البتة. ربما كان من الأرجح أن النظام سيلتزم بهذه التحذيرات المبطنة في العلن (وربما الصريحة في الأروقة الخلفية) إلا أنه مع حالة الحشد والتعبئة والتسخين التي يسلكها الإعلام، والتخويف من الجفاف والعطش، التي لا أعلم يقيناً ما مدى صحتها، وما يموج به الشارع من خطابٍ يطفح عنجهيةً واستعلاءٍ وعنصريةٍ على الافارقة، كما لو كانوا فاشلين بالضرورة، ومن طينةٍ دون البشر، وكما لو كانت الدنيا لم تتغير فيتعلمون ويتقدمون، فقد يُدفع النظام دفعاً للقيام بأي عملٍ للحفاظ على وضعه وتماسكه أمام الناس؛ إلا أنني أكاد أجزم بأن قيادات النظام تخشى من أي فشلٍ أو فضيحة قد تكشفها أمام العالم والشعب، قبل أي طرفٍ آخر فيهتز وضعه حتماً.
أما آخر الاحتمالات فهو أن النظام سيلتزم بالعملية السياسية، كما أملتها الأطراف الخارجية؛ سيستمر في المفاوضات، وسيعمل على تعويض نقص الماء من بحيرة ناصر خلال السنتين أو الثلاث سنوات المقبلة، وسيعمل على إيجاد حلولٍ بديلة كمحطات تحلية مياه بتمويلٍ خليجيٍ أو أمريكيٍ إلخ، وسيتم «تغليف» كل ذلك وتسويقه كونه انتصاراً للدبلوماسية المصرية الرائدة، وحقن الدماء، وستوبخ وسائل الإعلام الناس على التبذير في المياه، وتنصحنا بالاقتصاد فيه، ولو كنا على شفا نهرٍ كما في الحديث الشريف، وسنرى الإعلان تلو الآخر يعرض لنا في مشاهد تمثيلية أناساً يبذرون الماء إلخ، وقبل هذا وذاك فسينتظر الفرج من الله من منطلق عبور الأزمة الآن ثم «يحلها ألف حلَّال» المسلك الذي ليس بعيداً تماماً عن سيرة الأنظمة في بلداننا، وهذا بالطبع في موازاةٍ لإلقاء اللائمة والمسؤولية دائماً على ثورة يناير. وبالطبع فإنه سيلجأ للخشونة لمواجهة أي تظاهراتٍ أو اضطراباتٍ في حال نقص الماء، من دون أن يقلل من حصص المنتجعات وملاعب الجولف وتجمعات الإسكان الفاخر، وسيتدفق النهر الصناعي في العاصمة الإدارية الجديدة.
في لحظةٍ ما، التقت مصالح البورجوازية المصرية بفئاتها، مع المصالح الرأسمالية الإقليمية والعالمية فجاء انقلاب 2013، أما الآن فثمة تفارقٌ أو فجوةٌ ما بينهما في المصالح، ومن هنا الأزمة، لكن على الرغم من استحالة التنبؤ تماماً بمسار الأحداث، خاصةً في ظل حالة السيولة والتعرجات والشد والجذب في موضوعٍ مصيريٍ كهذا، إلا أنني أجدني أميل إلى الاحتمال الأخير. الأكيد أننا نستطيع أن نجزم بأن نظام السيسي لا بد أن يخسر شيئاً في هذه المعركة، والخيار هو في ماذا يخسر.. صورته أمام شعبٍ يريد أن يرى جيشاً قوياً صُرفت عليه أموالٌ طائلة، فيتحرك ليضرب ويحسم ويحمي حقوقه؟ أم علاقته بالخارج ومنهم داعموه الذين قد يتحركوا لعقابه وإسقاط النظام أو على الأقل استبدال السيسي؟
لم تبدأ الأزمة مع إثيوبيا وأفريقيا منذ 2011، بل منذ أن صار النظام يرى بأن 99.9% من الأوراق في يد الولايات المتحدة، فأدار ظهره لافريقيا، حيث منابع وجود مصر ودعامتها وحاضنتها الجغرافية الطبيعية، وحيث الشعوب التي ساعدتها مصر في التحرر من الاستعمار، فكانت تنظر لها باعتبارها الشقيقة الكبرى باعتزازٍ وتقدير، ولم يخف النظام (ولا الشعب للأسف) تعاليه على الأفارقة، ولا يحق لنا أن ننسى عبث السادات وتدخلاته المخزية والدموية المرتزقة في القرن الافريقي ومع إثيوبيا خاصةً في آخر عهده.