رهان على انتخابات: تأتي ولا تأتي


الأحزاب لا تزال قادرة على قرع الطبول الطائفية والمذهبية وتحريك العصبيات

رفيق خوري كاتب مقالات رأي

روسيا، حسب أكاديمية روسية، هي البلد الذي “لا يمكن التنبؤ بماضيه”. والماضي، كما يقول الروائي د. جي هارتلي “بلد أجنبي تفعل الناس فيه أمورها بشكل مختلف”. لكن الروائية الأسترالية-البريطانية كاترين مينون تقول في رواية “وحوش هشة” إن “الماضي ليس بلداً أجنبياً بمقدار ما هو عالم عدائي”. أما لبنان الذي صار من الصعب التنبؤ بحاضره أو مستقبله، بعدما كان الرئيس شارل حلو يقول “لا أعرف ماذا يحدث غداً لكني أعرف ما يحدث بعد غد”، فإن المشاكل والخلافات فيه تبدأ من النظرة إلى الماضي وتنتهي بالنظرة إلى الحاضر والمستقبل. و”أم الأزمات والمشاكل” في أي بلد أن يكون الخلاف على الماضي هو حجر الأساس في الخلاف على الحاضر والمستقبل. لكن إدارة الخلافات ضمن ما سمي في أيام ميشال شيحا “الالتباس الخلاق” و”سوء التفاهم المتفق عليه” سمحت بالقدرة على تغيير السلطة بإجراء الانتخابات النيابية والرئاسية في مواعيدها المحددة وأحياناً قبلها. كان ذلك طبعاً قبل الحرب التي بدأت عام 1975 وتوقفت عام 1990 بعد التوصل إلى “اتفاق الطائف”، اتفاق تم بإشراف السعودية والمغرب والجزائر، وعملياً بتفاهم أميركي-سعودي-سوري وإخراج برلماني لبناني، على الرغم من اعتراض الحكومة العسكرية برئاسة العماد ميشال عون. خلال الانتقائية في تطبيق الطائف في ظل “الوصاية السورية” حدث تعيين نواب في البرلمان للمرة الأولى منذ الاستقلال، ثم إجراء انتخابات نيابية قاطعها 90 في المئة من الناخبين، ثم تمديد الولاية لرئيسين بتعديل الدستور بقرار من دمشق. لكن مواعيد الانتخابات بقيت معروفة ومحفوظة. 

بعد الانسحاب العسكري السوري عام 2005 بموجب القرار الدولي 1559 في أعقاب اغتيال الرئيس رفيق الحريري وتحت ضغط “ثورة الأرز”، بدأ التغيير في الانتخابات الرئاسية. “حزب الله” المرتبط بإيران، الذي أمسك باللعبة بعد انسحاب دمشق وما سماه “النصر الإلهي” في حرب تموز (يوليو) 2006 مع العدوان الإسرائيلي فرض إيقاعه: أشهر من الشغور الرئاسي الذي تلا نهاية الولاية الممدة للرئيس العماد إميل لحود، قبل الذهاب إلى الدوحة للاتفاق على رئيس جديد وحكومة يملك “حزب الله” فيها الثلث المعطل. عامان ونصف العام من الشغور قبل التسليم بانتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية خلفاً للرئيس العماد ميشال سليمان. وأشهر قبل تأليف أي حكومة. اليوم صار لبنان جمهورية بلا مواعيد. لا أحد يعرف إن كنا على الطريق إلى انتخابات نيابية ورئاسية في العام المقبل. ومقابل الشخصيات اللبنانية والدول التي تجزم بحصول الانتخابات، هناك من يشك في الأمر، ويرى أن صاحب الأكثرية الحالية، أي “حزب الله”، ليس في وارد المجازفة بخسارة الأكثرية. لا بل إن هناك من ينظر إلى الانهيار المتسارع في كل المجالات، فيرى فرصة لدى “محور الممانعة والمقاومة” بقيادة إيران لتغيير وجه لبنان. ولا شيء يوحي أن الدعوات إلى انتخابات نيابية مبكرة ستجد استجابة بالطبع.

لكن قوى وازنة في الداخل وقوى مؤثرة في الخارج تراهن، لا فقط على حتمية الانتخابات، بل أيضاً على التغيير وإعادة تكوين السلطة. لماذا؟ أولاً، لأن التركيبة السياسية الحاكمة والمتحكمة فاسدة وعاجزة حتى عن تأليف حكومة وتقديم الخدمات وفاقدة الكثير مما كان لها في الأوساط الشعبية. وثانياً، لأن الحراك الشعبي المستمر تكشّف عن صعود جيل جديد يبحث عن التغيير الفعلي من خارج الأطر التقليدية. فالأحزاب مجتمعة خسرت انتخابات نقابة المهندسين أمام لائحة باسم “النقابة تنتفض”. والمجتمع الدولي الذي يريد مساعدة لبنان، لكنه يرفض أن تكون المساعدات عبر السلطة الحالية، يسهم في تعزيز المجتمع المدني والجيل الجديد. البابا فرنسيس تجاوز التركيبة السياسية للبحث عن حل من خارجها، رافضاً “ترك لبنان رهينة الأقدار أو الذين يسعون وراء مصالحهم الخاصة”. وفي اللقاء في روما بين وزراء الخارجية الأميركي والفرنسي والسعودي وما تبعه من قيام السفيرتين الأميركية والفرنسية في بيروت بمهمة غير مألوفة في الرياض، وما يدور في الاتحاد الأوروبي من بحث في العقوبات على المعرقلين في لبنان، إشارات إلى حراك عربي ودولي متعاظم. فالهدف هو التغيير نحو الأفضل للوصول إلى “قيادة حقيقية” في بيروت، حسب الوزير أنتوني بلينكن. والوسيلة هي دعم الجيل الجديد والمجتمع المدني في الانتخابات النيابية لضمان التغيير.

لكن الرهان ليس سهلاً. أولاً، لأن الأحزاب لا تزال قادرة على قرع الطبول الطائفية والمذهبية وتحريك العصبيات. وثانياً، لأن الحراك الشعبي ليس منظماً ولا موحداً. وثالثاً، لأن “محور الممانعة والمقاومة” مستعد للقتال من أجل ألا يخسر ما يربحه في البلد ولكي يزيد ربحه إلى حد القدرة على جعل لبنان ولاية في المشروع الإيراني. ورابعاً، لأن روسيا التي صارت جارة لبنان في سوريا مصرة على تحسين “الستاتيكو” بالأدوات التقليدية الحاضرة. وخامساً، لأن الفارق كبير بين انتخابات في نقابات النخبة وانتخابات نيابية. وسادساً، لأن الناخب الأكبر في بلد مفلس وشعب بات في حاجة إلى ضمان الحد الأدنى للعيش سيكون المال. ومن يقدمه حتى اليوم معروف ويدعو إلى “التوجه شرقاً”.

والسؤال هو: هل تحدث معجزة ضد كل العقوبات؟

مهما يكن الجواب، فإن التغيير صار قدر لبنان. ولا طريق للتغيير إلا بالوسائل الديمقراطية والانتخابات. والوقت قصير جداً قبل أن يكتمل الانهيار.