عندما يعلو صوت أردوغان


أميركا وروسيا تحتاجان إلى تركيا مقاولاً فرعياً في مواجهاتهما

طوني فرنسيس إعلامي وكاتب ومحلل سياسي لبناني

تقدم السياسة الخارجية التركية نموذجاً في ترتيب الأوضاع ضمن منطقة متوترة وعالم متضارب المصالح. والهدف من هذه السياسة تعزيز الحضور التركي بخلفيتيه الإخوانية والعثمانية على امتداد بقعة شاسعة من البحر المتوسط وصولاً إلى آسيا الوسطى عبر أساليب متعددة تتراوح بين الصفقات والحضور العسكري، بالاستناد إلى إمكانية التلاعب بقوتين عظميين، وحاجتهما إليها، الولايات المتحدة وروسيا.

كانت التصريحات التي أدلى بها الرئيس رجب طيب أردوغان أخيراً، إشارة إلى استمراره في نهج التوسع والتصادم الإقليمي. وهو الآتي من سلسلة اجتماعات مع الرئيس الأميركي جو بايدن ومع القادة الأوروبيين بمن فيهم رئيس الوزراء اليوناني، ومن سلسلة اتصالات مع مصر بهدف تطبيع العلاقات بين البلدين إثر قطيعة عدائية استمرت منذ تبنّي أنقرة نظام “الإخوان المسلمين” في القاهرة وبعد سقوطه.

حرص أردوغان بعد هذه المروحة الواسعة من الاتصالات والاجتماعات على تأكيد حضوره “في ليبيا وأذربيجان وسوريا وشرق المتوسط… وسنواصل وجودنا”. وهو يعني في ذلك معارضة الإجماع الدولي على خروج المقاتلين الأجانب من ليبيا ومواصلة أعمال التنقيب عن النفط والغاز في مناطق متنازع عليها في شرق المتوسط وتعزيز الحضور التركي في أذربيجان خصم أرمينيا، حليفة الروس والإيرانيين، ثم الاستمرار في اقتطاع أجزاء من سوريا ودعم فصائل سورية تابعة تحت غطاء ثلاثي أستانا وبالاتفاق مع موسكو.

لم تكن تركيا قادرة على ممارسة هذه السياسة لولا ثقتها بأنها لن تصطدم بالقوتين الأكثر حضوراً وتأثيراً في العالم وعلى حدودها. وهذا ما يشجع أردوغان على إعلان نياته لأهداف داخلية أيضاً، إذ يواجه معارضة تطالبه بانتخابات مبكرة على خلفية أزمات مالية واقتصادية قائمة.

يعتمد الرئيس التركي مساومات معقدة مع روسيا والولايات المتحدة الأميركية لإدراكه حاجة الطرفين إلى بلاده في سياستهما الدولية والإقليمية. ومع أن الوقائع تشير إلى مواقع تصادم كثيرة في العلاقات الروسية التركية إلا أن موسكو تحرص على مواصلة التعاون مع أنقرة.

يصطدم البلدان في القوقاز وأوكرانيا وسوريا وليبيا. تركيا تساند أذربيجان في وجه أرمينيا، وتدعم مطالب كييف في القرم، وتساند معارضي الرئيس بشار الأسد في إدلب وشمال سوريا، وتضع ثقلها إلى جانب مناهضي اللواء خليفة حفتر في ليبيا. كل هذه المواقف كانت كفيلة بوضع روسيا وتركيا في موقع العدوّين، فللروس مواقفهم النقيضة في كل تلك المواقع. مع ذلك، تتمسك موسكو بأنقرة وبالتعاون معها. وجاءت زيارة وزير الخارجية الروسي الأخيرة إلى أنطاليا لتؤكد قدرة الجانبين على إنجاز مزيد من الصفقات، على الرغم من وجودهما على طرفي نقيض من الصراعات. ففي النهاية، يسعى الروس والأتراك إلى اتفاقات تكتيكية من شأنها تعزيز نفوذهما في مسارح “العمليات” على حساب أطراف ثالثة.

في مقدمة الأطراف الثالثة، تشكل تركيا “خرقاً” بطريقة ما لحلف الأطلسي وأميركا وأوروبا تحتاج إليه روسيا في مواجهاتها مع الغرب.

تلعب تركيا لعبتها الروسية، لكنها تواصل بالقدر ذاته لعبتها الأميركية.

فواشنطن تحتاج إلى تركيا قوية لأسباب عدة. تعزيز القومية الأذرية يزعج إيران من الداخل، وعلى الرغم من تحسين بايدن علاقات بلاده مع أوروبا، فإن أميركا لا تمانع بعض الإزعاج التركي للاتحاد الأوروبي ليبقى في حاجة إلى الأب الأميركي، خصوصاً في مواجهة روسيا. وتحتاج واشنطن إلى موقف أنقرة الملائم لسياستها في أوكرانيا، كما أنها تعتمد تركيا مقاولاً فرعياً في نزاعات تزمع الخروج منها، وهذا ما يمكن إطلاقه من أوصاف على التدخل التركي في ليبيا أو ما يجري من اتصالات لإبقاء قواتها في مطار كابول.

إلى متى يمكن لتركيا أردوغان الاستمرار في اللعب على حبلَي موسكو وواشنطن؟

هذا ما ستكشف عنه التطورات، ومنها خصوصاً نتائج الحوار الاستراتيجي المتفق على إطلاقه بين الدولتين العظميين.