إعلان عالمي ضمني: لبنان بلد منكوب


لم تتوال عليه الكوارث والانهيارات فقط بل أيضا المافيا الحاكمة والمتحكمة التي أدت لانهياره وإفلاسه

رفيق خوري كاتب مقالات رأي

بنان ليس مجرد طبيعة جميلة تعرض معظمها للتشويه على أيدي اللبنانيين في رعاية الجشع والجهل والمال. ولا هو “موطن النجوم” الذي حمله خيال الشعراء إلى أقاصي الأرض. إنه “البلد- الرسالة” كما وصفه البابا يوحنا بولس الثاني. بلد الحرية والانفتاح والعيش المشترك والأدب والموسيقى و”أشياء الجمال”. بلد المستوى الرفيع من الجامعات والمستشفيات والمصارف والصحافة ودور النشر على الصعيدين العربي والدولي. لكن “لعبة الأمم” استغلت الانفتاح والحريات والانقسام السياسي والطائفي والمذهبي، ودفعت لبنان إلى أدوار أكبر من قدرته وضد طابعه المتميز بالاعتدال والتسويات والحوار. البلد الذي بني استقلاله على معادلة: لا شرق ولا غرب، وميثاقه الوطني على التفهم والتفاهم في الداخل، ودوره العربي على احترام الجميع ومعادلة “لا مقر ولا ممر” لأي أمر معاد لإخوانه العرب، صار “المقر والممر” لكل الصراعات في الشرق الأوسط وعليه.

المواجهة بين التيار الناصري و”حلف السنتو” في خمسينيات القرن الماضي قادت إلى أول صدام عسكري في لبنان له بعد محلي طبعاً. المنظمات الفلسطينية والدول التي وراء فصائلها اختارت لبنان في النصف الثاني من الستينيات وبداية السبعينيات، بعد طردها من الأردن، للعمل على “تحرير فلسطين” من أرضه، فقادها الفشل في المهمة إلى التحكم بالبلد والتصرف كأنه “الوطن البديل”، ثم إلى حرب طويلة أدت إلى “تغيير” لبنان وإخراج منظمة التحرير منه باجتياح إسرائيلي. إسرائيل احتلت لبنان ووصلت إلى بيروت كأول عاصمة عربية، ضمن مشروع مزدوج: القضاء على منظمة التحرير، ومد معاهدة “كامب ديفيد” مع مصر إلى بلدان عربية عدة. قوات الردع العربية لم تُطل الإقامة في لبنان لأن سوريا أرادت، بدعم أميركي- إسرائيلي وقبول عربي، الانفراد بضبط الوضع في لبنان والوصاية عليه إلى أن أجبرها الذين دعموها على الانسحاب عام 2005. والدور الذي قام به “حزب الله” في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، بعد ما تفاهمت سوريا وإيران على حصر المقاومة به، وهي كانت وطنية، أدى الى أن يصبح “حزب الله” قوة إقليمية تتحكم بلبنان وتقاتل في سوريا ولها أدوار في العراق واليمن ومع غزة وأماكن أخرى.

ليوم تحكم لبنان مافيا سياسية مالية وميليشياوية دفعته بدم بارد إلى الإفلاس والانهيار. الليرة خسرت 1100 في المئة من قيمتها. ثلث أطفال البلد، بحسب اليونيسيف، لا يحصلون على عدد كاف من وجبات الطعام ولا يتلقون الرعاية الصحية الأولية. 15 في المئة منهم تركوا المدارس. و55 في المئة من اللبنانيين، بحسب إحصاءات الإسكوا، تحت خط الفقر، بينهم 27 في المئة تحت خط الفقر الشديد. لا حكومة. لا دور للمجلس النيابي خارج الروتين “التشريعي”. لا بديل من مجلس الوزراء اسمه مجلس الدفاع الأعلى. لا شيء يوحي أن القانون الذي يؤكد “استقلالية القضاء” سيبصر النور مهما طال إضراب نقابة المحامين. الإدارة تتحلل. لا ورق، لا حبر في الدوائر. لا كهرباء، لا دولارات، ولا محاسبة للمصارف التي قامرت بودائع الناس مقابل أرباح هائلة. والنهايات تتكاثر: نهاية المستشفيات، نهاية الجامعات، نهاية المصارف، ونهاية الصحافة.

والمفارقة أن العقدة محلية والخارج يحاول فكها من دون نجاح. عواصم العالم المختلفة على أمور كثيرة متفقة على إنقاذ لبنان من الانهيار الكامل. بعضها للتعاطف مع اللبنانيين الرهائن في بلد سماه البابا فرنسيس “الكنز”. وبعضها الآخر خوفاً على اللاجئين السوريين والفلسطينيين ومن اندفاعهم نحو أوروبا، وتخوفاً من أن يكون الانهيار اللبناني بداية دومينو انهيارات في المنطقة.

والسؤال هو: ما الذي يستطيع أن يفعله الفاتيكان بعد يوم الصلاة من أجل لبنان بحضور بطاركة الشرق، سوى تحريك دبلوماسيته الهادئة مع أميركا وفرنسا وسواهما؟ وما الذي يقود إليه اللقاء الثلاثي في باريس بين وزراء الخارجية، الأميركي أنتوني بلينكن والفرنسي جان إيف لودريان والسعودي الأمير فيصل بن فرحان ما دام الناقص هو “القيادة الحقيقية” في بيروت؟ الحد الأدنى هو إعلان عالمي ضمني: لبنان بلد منكوب. منكوب، لا فقط بالكوارث والانهيارات بل أيضاً بالمافيا الحاكمة والمتحكمة التي تصنع الكوارث. والخيار محدد: البلد المنكوب الذي يرى أصحاب الإعلان حكامه فاسدين، يتلقى مساعدات إنسانية لأبنائه من خارج الإطار الرسمي حيث خطر الفساد والسطو. والبلد المنكوب الذي تتولاه “قيادة حقيقية” تأتيه المساعدات والاستثمارات والقروض مع الدعم السياسي للإصلاح وإعادة تكوين السلطة وبناء لبنان الحقيقي قبل الانتقال إلى الأفضل.

المقالة تعبر عن رتي كاتبها