هل يكرر بايدن أخطاء أوباما في أوروبا؟


تركيز الرئيس الأميركي على برلين وبروكسل مع تجاهل العواصم الأخرى قد يكون خطأ فادحاً

طارق الشامي صحافي متخصص في الشؤون الأميركية والعربية @tarek21shamy

صاحبت الرئيس الأميركي جو بايدن خلال عودته من رحلته الخارجية الأولى إلى أوروبا، موجة من ردود الفعل الإيجابية نتيجة لإحياء الشراكة عبر الأطلسي في مواجهة الخصوم القدامى روسيا والصين، غير أن بايدن واجه أيضاً تساؤلات حول ما إذا كان سيتبع نهجاً مختلفاً عن النهج الذي اتخذه الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما حيال أوروبا، بخاصة إهماله عديداً من العواصم الأقل نفوذاً وتركيزه في استراتيجيته الخارجية على عاصمتين فقط هما برلين على اعتبار أن ألمانيا قاطرة أوروبا الاقتصادية الأكثر نفوذاً، وبروكسل عاصمة الاتحاد الأوروبي، فهل سيقع بايدن في الأخطاء نفسها أم سيتداركها قبل فوات الأوان، لا سيما وأن عدداً من الدول الأوروبية بدأ التذمر والتحذير من تداعيات هذه السياسة؟

زيارة ناجحة… ولكن

كانت زيارة الرئيس الأميركي لأوروبا ناجحة بشكل عام من حيث تحديد مسار مشترك لمعالجة بعض التحديات العالمية طويلة الأجل التي تواجهها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فضلاً عن إظهار التماسك بين الجانبين بعد أربع سنوات من السياسة الخارجية غير المنضبطة لإدارة الرئيس السابق دونالد ترمب، فقد شعر الأوروبيون بالارتياح لعودة أميركا لدورها التقليدي، ومع ذلك، ظل هناك شعور بالاستياء لدى بعض الدول كشفت عنه تصريحات وزير الخارجية البولندي زبيغنيو راو، حين وصف في لقاء صحافي العلاقات الأميركية البولندية بأنها ليست جيدة، بخاصة بعدما تجاهل الأميركيون التشاور مع  شركائهم في وارسو، حينما اتخذ بايدن قرار التخلي عن العقوبات المفروضة على خط غاز “نورد ستريم 2” الذي يمتد من روسيا إلى ألمانيا، على الرغم من أن وارسو وواشنطن كافحتا معاً على مدى سنوات لوقف هذا المشروع.

ويبدو أن بعض دول أوروبا مثل بولندا تشعر بقدر من التهميش، بعدما تحسنت علاقاتها مع أميركا بشكل ملحوظ في عهد ترمب عقب سنوات من الإهمال في ظل إدارة الرئيس السابق أوباما، ولهذا يرى بعض المراقبين أن بايدن يخاطر الآن بتكرار خطأ سلفه الديمقراطي في عدم التمييز بين ألمانيا وبروكسل حيث قيادة الاتحاد الأوروبي، وبين بقية الحلفاء الأوروبيين المهمين استراتيجياً الذين تجاهلتهم الولايات المتحدة خلال سنوات حكم أوباما.

بولندا وأوكرانيا

ولأن جغرافية بولندا تجعلها حساسة للتغيرات في العلاقات الأميركية الروسية، فإن المشكلة تزداد إلحاحاً بالنسبة إليها، وهو ما تعبر عنه بوضوح تصريحات وزير الخارجية البولندي الذي ربط بين قرار عدم فرض عقوبات على خط غاز “نورد ستريم 2“، وبين لقاء بايدن مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إضافة إلى تدخل الإدارة الأميركية أيضاً لمنع عقد قمة بين حلف شمال الأطلسي “الناتو” وأوكرانيا، على الأرجح لخلق مساحة لانفتاحها على روسيا، ولا شك أن هذه الخطوات كفيلة بإثارة قلق البولنديين الذين يتخوفون من أن يعكس بايدن حشد ترمب للقوات الأميركية في بولندا خلال العام الأخير من حكمه.

وينتقد مسؤولون سابقون في إدارة ترمب قرار إدارة بايدن تقديم حزمة مساعدات عسكرية من البنتاغون لأوكرانيا قبل أيام قليلة من اجتماع بايدن وبوتين، لكنها حذفت لسبب غير مفهوم صواريخ “جافلين” المضادة للدبابات، وهي الأسلحة نفسها التي طلب الديمقراطيون من ترمب تقديمها لأوكرانيا كدليل على استعداده للتصدي للرئيس الروسي بوتين.

دول وسط أوروبا

لكن بولندا ليست الدولة الوحيدة التي تستشعر بعض التجاهل من تركيز بايدن في تعامله مع أوروبا على برلين وبروكسل وباريس أيضاً، فقد تم التعامل مع معظم دول أوروبا الوسطى على أنها منطقة عبور خلال سنوات أوباما، والآن تخاطر إدارة بايدن بالعودة إلى هذا الوضع، فقد زار وزير الخارجية الأميركي السابق جون كيري فرنسا 34 مرة، بينما لم يتوجه بأي زيارة إلى سلوفاكيا أو رومانيا أو المجر أو جمهورية التشيك، وعلى الرغم من أنه زار فيينا 11 مرة لعقد اجتماعات مع الإيرانيين والروس، إلا أنه لم يقم بأي زيارة رسمية إلى النمسا نفسها.

ويقارن الجمهوريون وإدارة ترمب هذا التوجه بزيارات وزير الخارجية السابق مايك بومبيو، الذي كرس اهتماماً كبيراً بالنمسا ودول “فيشغراد”، وهي بولندا والمجر وجمهورية التشيك وسلوفاكيا، التي عمل كبار المسؤولين الصينيين والروس بدأب على تنمية نفوذ بلادهم في هذه الدول.

وتخشى دول وسط أوروبا من أن تعزيز العلاقات والمصالح الأميركية معها في عهد ترمب قد يعرقل استمرار المسار الإيجابي في العلاقات مع واشنطن خلال سنوات حكم بايدن، فقد دعمت إدارة ترمب استثماراتها في هذه الدول وأطلقت مبادرات من أجل خلق بدائل للاستثمار الصيني والروسي، فضلاً عن مبادرة الشبكة النظيفة التي أطلقها بومبيو لمواجهة شركة الاتصالات الصينية “هواوي” التي وقعت عليها كل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 27 باستثناء دولة واحدة، كما ساعد تعميق العلاقات مع النمسا وغيرها من دول وسط أوروبا في كسب مساندتها لتحقيق أهداف الولايات المتحدة في البلقان وأماكن أخرى.

قبرص واليونان

ويرى كثير من القيادات الجمهورية أن نهج بايدن قد يمتد إلى ما هو أبعد من وسط أوروبا ليصل إلى اليونان وقبرص على سبيل المثال، فقد امتنعت الإدارات الأميركية المتعاقبة على اختلاف انتماءاتها الحزبية منذ منتصف السبعينيات عن تعميق العلاقات مع هذين البلدين خوفاً من إغضاب تركيا، وهو ما تغير بشكل واضح مع استراتيجية ترمب في شرق البحر المتوسط التي شهدت تعزيز العلاقات الدفاعية الأميركية مع اليونان، وأنهت الحظر المفروض على المساعدات الأمنية لقبرص.

إسبانيا والبرتغال والنرويج

وينطبق الشيء نفسه على دول أخرى، وإن كانت بطريقة مختلفة، فقد كثفت الولايات المتحدة في عهد ترمب دبلوماسية الحوافز التجارية مع كل من إسبانيا والبرتغال، وكلاهما شهد دبلوماسية تحفيز تجارية أميركية مكثفة أدت إلى زيادة التجارة مع البرتغال إلى 40 في المئة، وتُوجت هذه الجهود في النهاية برفض هذين البلدين خطط شركة “هواوي” الصينية لتشييد بنية تحتية لشبكات الجيل الخامس “5 جي”، أما النرويج، وهي وإن كانت ليست دولة عضواً في الاتحاد الأوروبي، إلا أنها مهمة من الناحية الاستراتيجية، وتوسعت علاقاتها الدفاعية مع الولايات المتحدة بشكل كبير كجزء من جهود إدارة ترمب لوقف محاولات كل من روسيا والصين غزو القطب الشمالي.

بريطانيا… علامة استفهام

ولعل أكبر علامة استفهام تتعلق بالعلاقات الأميركية مع بريطانيا، وما إذا كانت لاتزال تمثل أولوية بالنسبة إلى إدارة الرئيس بايدن، فمن المعروف أن أوباما كان من أشد المعارضين لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ووضع المملكة المتحدة في آخر قائمة المحادثات التجارية عندما تحدت نصيحته، بينما اتخذ ترمب موقفاً مغايراً تماماً، وأطلق محادثات بشأن اتفاقية تجارة حرة ثنائية، وأبلغ بريطانيا والاتحاد الأوروبي على حد سواء، أن العلاقة الخاصة ستظل أولوية بغض النظر عن نتيجة مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

وعلى الرغم من أن بايدن تحدث بالمثل عن أولوية العلاقة الخاصة بين البلدين عندما وصل إلى بريطانيا في بداية جولته الأوروبية، إلا أن تصرفات إدارته مازالت غامضة، فقد تأجلت المفاوضات حول اتفاقية التجارة بين الجانبين، وفي الوقت نفسه، أعلنت الإدارة الأميركية أنها قد تفرض ضريبة انتقامية ضد المملكة المتحدة وإسبانيا وإيطاليا فضلاً عن تركيا والهند بعد فرض هذه الدول ضريبة على خدمات “الديجيتال” من مواقع التواصل الاجتماعي التي تقدمها شركات التكنولوجيا الأميركية.

وفي حين تقول الإدارة الأميركية إنها محايدة بشأن نزاع بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي بشأن وضع إيرلندا الشمالية في المستقبل، تستشعر الحكومة البريطانية أن إدارة بايدن تميل إلى الضغط على لندن بدرجة أكبر من الضغط على بروكسل.

القلب والأطراف

ولهذا، فإن إدارة بايدن وإن كان من المهم لها أن تواصل تعضيد وتثبيت علاقاتها من القلب الأوروبي في برلين وبروكسل وباريس، فإنه ينبغي عليها ألا تتجاهل الأطراف بسبب الحاجة إلى التنافس على النفوذ في أجزاء من أوروبا حيث حققت الصين وروسيا نجاحات تجارية واستراتيجية، لأن التركيز فقط على العلاقات مع القلب الأوروبي، مع إهمال المناطق التي تعد الساحة الرئيسة في منافسة القوى العظمى هو خطأ فادح، سوف يأتي بنتائج عكسية، ويلحق ضرراً طويل الأمد بالمصالح الوطنية للولايات المتحدة.

ومع ذلك، مازال هناك شعور بأن زيارة بايدن تركت بعض الأعمال غير مكتملة، فقد كان الأوروبيون يأملون في الحصول على بعض الثمار في النزاعات التجارية القائمة حالياً عبر التوصل إلى اتفاق في بعض القضايا الخلافية، لكن لم يتم الاتفاق سوى على تعليق النزاع بين شركتي “إيرباص” الأوروبية و”بوينغ” الأميركية.

ولكن في النهاية، فإن الشعور بضياع الفرصة لم يتبدد بالكامل، فما تزال هناك رهانات لتعاون نشط وفهم واضح لما يعنيه التعاون مع واشنطن من الناحية العملية، ومن دون مثل هذا التوضيح، فإن النوايا الحسنة عبر المحيط الأطلسي سوف تتعرض لخطر الإعاقات بسبب الارتباك والمشاحنات المحتملة بين الطرفين.