العقيد والنواب!


كان العقيد يقود الجماهير في تظاهرة غاضبة ضد احتلال العدو الصهيوني لأول عاصمة عربية

أحمد الفيتوري كاتب

متعب مني 

ولا أقوى على حملي

لبيت كلما قاربته ينأى

بما سهدني العشق على كتفي ناما*

الشاعر يلقي قصائده، في الساحة الخضراء، والعقيد يخطب، والإذاعة والتلفزيون ينقلان الحدث مباشرة، أما الجماهير فقد غصت بها الساحة، التي من ليس بها، يتابع هذه المسرحية التراجكوميدي! عبر الأثير.

كان العقيد يقود الجماهير، في تظاهرة غاضبة، ضد احتلال العدو الصهيوني لأول عاصمة عربية، فيما الشاعر في نفس المكان نفس الزمان، يشتم الحكام وكل العرب، من يُزنى بعروستهم. كنا في سجون العقيد حينها، فكانت الملهاة عندنا، أن الشاعر الذي يشتم حكام العرب، في قصائده التي يلقيها في الساحة، يقف إلى جانب العقيد، من يخطب شاتماً أيضاً الحكام العرب!

لم يكن الشاعر مظفر النواب ساعتها، يفعل ما لا يرى أو ما لا يريد، وقد كان منذ فترة قد حل على العقيد معمر القذافي كشاعر كبير، ليقيم في ليبيا لسنوات، وليتخذ من جواز سفرها هوية رسمية.

آنذاك اعتاد التلفزيون الليبي، بث قصائد الشاعر، الممنوعة في البلدان العربية، كما أن إذاعة صوت الوطن العربي الكبير الليبية، عادة ما تنهي ليلها وتبدأ نهارها، بالمظفر يلقي تلكم القصائد الممنوعة بالجملة. حيث يتسنى للعرب، من المحيط إلى الخليج، الاستماع للشاعر، ولمن يرغب التسجيل، بما يعني أن الشاعر مظفر النواب، ولسنوات، كما مالك لإذاعة ذات تردد قوي جداً، وعنده وقت وفسحة تلفزيونية، وهذا في تقديري لم يحدث في تاريخ الشعر العربي، وبتحفظ غير المتيقن، لم يحدث لشاعر البتة.

الشاعر مظفر النواب وجد مبتغاه، فقد كان رفقة “عازف عود”، وأحياناً بعوده وحده، يقيم الأمسيات الشعرية الكبرى، في قاعات البلاد الكبرى، مثل قاعة بنغازي، ما شيدها الإيطاليون من أدوار ثلاثة، وفي مسرح الكشاف بطرابلس كأهم قاعة في المدينة. ثم تُبث الأمسيات عبر الإذاعة، وبعض منها عبر التفزيون. كان الشاعر يلقي ما يحب، ويكتب ما يريد، ولم يكتب  مديحاً أو هجاء، إلا فيما يرى ويعتقد، وهذا ما يمكن استنتاجه مما نشر مظفر النواب.

الشيء بالشيء يذكر، فقد فعل العقيد شيئاً مشابهاً نوعاً ما، مع المخرج الأميركي السوري الأصل مصطفي العقاد، عندما لم يتمكن، بعد فتوى مضادة، من إنجاز “الرسالة”، الفيلم التاريخي الإسلامي الشهير، ما أنتج ليبياً، وصوّر في ليبيا، وعُرض في ليبيا، حين مُنع في غيرها.

لماذا أذكر تاريخاً، وحدثاً من سالف الأيام؟ أجيب أن من دواعي ذلك، مشاهدتي هذه الأيام، لشريط تلفزيوني مُعاد بثه، أُنتج وعُرض في محطة كبرى، ولم يذكر شيئاً مما ذكرت. وفي تأويلي الشخصي أن ناتج هذا تزوير، أي إزالة فترة هامة من تاريخ شاعر، ومن مرحلة تاريخية، أو على الأقل مصادرة للوقائع، حيث وضع الشاعر، في سرير بروكست المرحلة، ما تزيل وتضيف للأمس ما تريد وترى اليوم، والحدث وليد الأمس القريب، فما بالك بالبعيد. وهذا سيعني تشويهاً للشاعر لأنه تزييف للحقائق، وكأنما الشاعر طفل يملك الورثة الوصاية عليه.

عليه حقائق الأمس مرهونة باليوم، من هذا تتناسل سلالة الأمس، ما ليس أمساً عند كل فاعل قدير، وقد غدا عند الكثيرين: الزمن الجميل. فاليوم رهينة الأمس البعيد – أي منذ 14 قرناً، أو الأمس القريب – أي ليلة البارحة من ساعة ما تقرأ هذا. يُقال لَيّ رقبة، فالماضي ليس الماضي، بل الماضي كما يريد الحاضر، ما ليس حاضراً، إلا في ذاك الماضي الذي يريد.

وإذا كان حقاً أن غداً يبدأ اليوم، فإن اليوم هو مكرر أمس، ما ليس أمساً بل الزمن الجميل، هذا الجميل ما يمطط، ما يقص، ما يُعاد تدويره، حتى يفقد هويته، بالمصادرة على المطلوب، بحسب قول الفلاسفة.

بكيفية كهذه، ليس الشاعر مظفر النواب، الذي نشاهد في الشريط المزعوم كشهادة، بل ما نشاهد الشاعر المكيف للحظة، لذا يكون الشريط، شريط مونتاج، من الفكرة فالتأليف والسيناريو والإخراج حتى العرض. أي في كل مراحله تصادره المرحلة المنتجة، ومن هذا يتضح: أن إرادة النواب، مصادرة ومتعسف عليها، حين كان الشاعر بإرادته، يلقي قصائده في أمسية الساحة، أو ساعة بث الشريط.

الشريط الذي يحدث وما نشاهد الآن وهنا، شريط الشاعر مظفر النواب، من سمى الشريط: متعب مني ولا أقوى على حملي.

*من قصيدة الشاعر مظفر النواب: أيها القبطان.