في تفسير الإطاحة بالكاتب عريب الرنتاوي من اللجنة التي شكلها الملك عبدالله الثاني لتحديث الحياة السياسية، استعيدت تسريبات “ويكيليكس” التي نسب له فيها حديث مع السفارة الأميركية، يقول فيها “لا بد من زيادة الضغوط الخارجية على الأردن من أجل فرض حقوق متساوية للفلسطينيين”، و”يجب أن يكون ثمة عملية سلام شاملة تحسم قضايا الهوية وحقوق الفلسطينيين في الأردن”. وبمعزل عن صحة التسريبات وسياقها، فإنها ذكّرتني بخلاف مع الكاتب عام 1996، في برنامج “أقلام وآراء” الذي كان يبثه التلفزيون الأردني، عن هذه القضية، ونظرا إلى حساسية القضية لم تبث الحلقة، وهذا سلوكٌ غير ديمقراطي معتاد، فما هو حسّاس لا يناقش بشكل علمي، ولكنه يظل مادة لجلسات الغيبة والنميمة، ويخوض فيه الجهّال وأصحاب الغرض، وتستغله الدوائر المعادية لصناعة الاستقطاب في المجتمع وتمزيقه.
قبل نقاش الفكرة، مهم أن أوضح أني ضد الحملة على الكاتب، ولم أجد في مقاله عن معركة الكرامة تجاوزا لدور الجيش العربي (الأردني)، ولو خانه التعبير أو أخطأ فقد أوضح واعتذر. وقد اختلفت معه في كثير من قضايا الربيع العربي، وخصوصا دعمه نظام المجرم بشار الأسد، والحلف الإيراني. لكن الخلاف بشجاعة في العلن يظل أفضل من استخدام كواتم الصوت في الخفاء.
وأحسب أن ما يعيق الإصلاح السياسي في الأردن ليس حجم تمثيل الأردنيين من أصل فلسطيني في مجلس النواب، فقد كان تمثيلهم الأدنى عام 1989 في مجلس النواب الحادي عشر، والذي يعتبر نموذج التحوّل الديمقراطي. لم تنشغل القوى الديمقراطية في الأردن وقتها بحسبة الأصول والمنابت. يومها لم يخرج ممثل واحد عن مخيم البقعة، أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في العالم، ذهبت أصوات المخيم يومها إلى مرشّحين بناء على برامجهم، حصد أعلى الأصوات عبد اللطيف عربيات، مرشح الحركة الإسلامية، الذي انتخب لاحقا رئيسا لمجلس النواب.
وفي الاستثناء الديمقراطي الأبعد عام 1956، حصل يعقوب زيادين، المسيحي الشرق أردني، على أعلى الأصوات في مدينة القدس، لأنه شيوعي، بعيدا عن أصوله الفلاحية والطائفية. لا يمكن تحديث الحياة السياسية من دون العودة إلى الاستثناءين عامي 1956 و1989، ففي غيرهما لم تكن تجارب ديمقراطية حقيقية، بل كان مجلس النواب يولد من رحم تدخلات السلطة التنفيذية. ومنذ العام 1993 بات مألوفا في الأردن أن يصل إلى المجلس من ترضى عنه السلطة، وأن يُمنع من تسخط عليه، وقد سمعت من أعضاء في اللجنة الملكية كيف جرى ترسيبهم بقرار أمني، وكيف سُمح لهم بالنجاح بقرار أمني. ولا أنسى حديث عبد اللطيف عربيات عن ترسيبه في انتخابات 1993، واستسماح الملك حسين منه، وتعيينه عضوا في الأعيان.
في وحدة الضفتين (1950)، مع أن الفلسطينيين كانوا يشكلون أكثرية ديموغرافية أكثر مما هم اليوم، لم تتغير هوية الأردن، ولا هوية فلسطين. وقتها كانت محافظات الضفة الغربية جزءا من قانون الانتخابات، معطوفا عليهم من هجّروا من فلسطين التاريخية لاجئين إلى الضفة الغربية والأردن.
ما يغيب عن النقاش، أو جلسات النميمة السياسية، أن قانون الانتخابات الذي جرت بموجبه انتخابات 1989 لم يجر عليه تعديل غير شطب دوائر الضفة الغربية بناء على قرار فك الارتباط عام 1988، أي أن تلك الدوائر “انشقّت”، لتشكل دولة فلسطينية، بالإضافة إلى دوائر غزة وفلسطينيي الشتات الموزعين في العالم.
مشاركة الأردنيين من أصول فلسطينية في الحياة السياسية لا تكون بزيادة “المحاصصة” في الدوائر الانتخابية، بل في الإيمان بالمشاركة السياسية نفسها، وإن الدستور قائمٌ على أساس التشاركية، وليس الحكم الفردي. وهذا ينطبق على الجميع بمعزل عن أصولهم. توجد مخاوف متبادلة، فالشرق أردنيون لدى محافظتهم “مكانة” دستورية لا ترتبط بالتعداد الديموغرافي. ولو طبّقنا معيار التعداد السكاني ستظلم محافظات الجنوب، ومقاعد البدو والشركس والشيشان والمسيحيين. وهذا ما يراعيه الأميركان في مفهوم “المجمع الانتخابي”.
يحتاج الأردنيون إلى نقاش علني جاد في القضايا الحساسة، بما فيها الدوائر الانتخابية ومعادلة الجغرافيا والديموغرافيا، والتمييز التفضيلي (الكوتا)، فعلى سبيل المثال، لو وضعنا المعيار الديموغرافي أساسا، كم نائبا مسيحيا سيمثّل في ظل تراجع أعداد المسيحيين إلى نحو 4% من السكان؟ ما هو أهم من الوزن الديموغرافي للدائرة هو الوزن الحقيقي للنائب في دستورٍ ينص على أن نظام الحكم “نيابي ملكي وراثي”، بمعزل عن أصول النائب وطائفته وقبيلته، وفوق ذلك اتجاهه السياسي.