من زمن الثورات إلى زمن التطور


هل صار الإنماء السلمي الديمقراطي هو طريق المستقبل؟

رفيق خوري كاتب مقالات رأي

في الأول من يوليو (تموز) أسس 13 مثقفاً بينهم ماوتسي تونغ، “الحزب الشيوعي” الصيني، واختاروا تشين دوكسيو أميناً عاماً. لكن ماو الذي اعترف لزعيم سوفياتي بأنه لم يقرأ كتاب “الرأسمال” لماركس، تزعم الحزب وقاد “المسيرة الكبرى” إلى بكين والنصر وإعلان جمهورية الصين الشعبية عام 1949. ثم صنع كارثتين: واحدة هي “الثورة الثقافية” التي مارس فيها شبان صغار إذلال آلاف القادة والكوادر في الحزب، بينهم والد الزعيم الحالي شي جينبينغ ودينغ شياو بينغ، الذي عاد إلى تسلم الزعامة بعد موت ماو، وأنقذ الصين وقادها إلى الانفتاح. والثانية هي “القفزة الكبرى” الاقتصادية، التي أدت إلى أكبر مجاعة قضى فيها 30 مليون صيني. اليوم تحتفل الصين بالذكرى المئوية لتأسيس الحزب الذي صار يضم 93 مليون عضو، بصرف النظر عما بقي من الثورة وأفكار ماو و”الكتاب الأحمر”. فالانفتاح الاقتصادي قاد الصين إلى أن تصبح الاقتصاد الثاني في العالم بعد أميركا، وتتنافس معها في التكنولوجيا من دون أن تتخلى عن الضبط السياسي الشديد والخطاب الإيديولوجي. والسؤال، في أعقاب “الثورات المخملية” بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وثورات “الربيع العربي”، هو: هل انتهى عصر الثورات الكبرى؟ ماذا قدمت الثورات للمجتمعات؟ أين مكان الإيديولوجيا في ثورة الاتصالات والتكنولوجيا؟ وهل صار التطور السلمي الديمقراطي هو طريق المستقبل؟

التجارب أكدت الفارق بين ما تقوم من أجله الثورات وما يمارسه الثوار في السلطة وما تنتهي إليه الثورة. ثورة الاستقلال الأميركي في القرن الـ18 قادت إلى حرب أهلية في القرن الـ19 انتصر فيها الاتحاد بقيادة الرئيس لينكولن، ليصبح قوة عظمى وإمبراطورية. الثورة الفرنسية في القرن الـ18 ورثها نابوليون وحروبه والإمبراطورية في الـ19. ثورات “ربيع الشعوب” في أوروبا القرن الـ19 فشلت. الثورات الكبرى في القرن الـ20 ثلاث: الثورة البلشفية الروسية التي انتهت بسقوط الاتحاد السوفياتي بعد ثلاثة أرباع القرن. الثورة الصينية. والثورة الإسلامية في إيران التي أقامت نظاماً ثيوقراطياً وصفه حسين علي منتظري نائب الإمام الخميني، بأنه “نظام مبني على القوة والقمع والقتل والاعتقال وإغلاق الصحف وسجن النخبة المتنورة، وهو مدان وغير شرعي”. وهذا ما رد عليه الخميني بعزل نائبه، ما فتح الباب إلى صعود خامنئي.

أما الثورات الأصغر، فإنها سارت على الطريق نفسه. الثورة الكوبية أقامت نظاماً شمولياً بقيادة الأخوين كاسترو. ثورة نيكاراغوا سقطت بالانتخابات قبل أن يعود قائدها أورتيغا ليفوز بالرئاسة، ويجدد لنفسه ويختار زوجته نائبة له ويقمع التظاهرات السلمية ضد النظام السلطوي. ثورات “الربيع العربي” قادت إلى فوضى وإرهاب وحروب أهلية وظهور “داعش” و”النصرة”. تونس وجدت صيغة ديمقراطية لكنها في أزمة دائمة بين التيارات وأبرزها حركة “النهضة”. مصر أنقذها الجيش من حكم الإخوان المسلمين. ليبيا تحاول لملمة جراحها بمساعدة المجتمع الدولي. سوريا في حرب لا تنتهي أمسك بها الأصوليون ويديرها الروس والإيرانيون والأميركيون والأتراك، مع بقاء النظام. السودان تجربة للتفاهم بين الجيش والمدنيين تواجه مصاعب ومتاعب. والجزائر التي تشهد أوسع انتفاضة شعبية لا تزال في عهدة الجيش.

يقول لينين “إن ما يحتاج إليه المرء لإسقاط نظام ليس ببساطة منظمة قوية بل منظمة ثوريين”. لكن الدنيا تغيرت. فالثورات المسلحة صارت ضد اتجاه الزمن، لأنها إما أن تفشل وتقود إلى فوضى وإما أن تقيم نظاماً استبدادياً أسوأ من النظام السابق. والثورات السلمية تحتاج إلى كتلة شعبية واسعة، لا إلى مجرد “منظمة ثوريين”. ومنطق العصر في إطار ثورة الاتصالات والتكنولوجيا هو التطور الديمقراطي السلمي. فالانتخابات، في رأي ألكسيس دو توكفيل، هي “ثورات دستورية، وكل جيل هو شعب جديد”. وفي كتاب “تشريح الثورة”، يقول كرين برنستون “إن الثورة تشبه الحمى التي تصيب الجسد، وتؤدي إلى إرهاب وسيطرة رجال فاسدين قبل أن تظهر ديمقراطية مستقرة في النهاية”. وهو يناقض النظريات القائلة إن الفقراء هم الذين يقومون بالثورة. فالذين يقومون بالثورة، في رأيه، هم البورجوازيون الناقمون الذين “يفقدون ما اعتادوا الحصول عليه”. أما إيفان كراستيف رئيس مركز الدراسات الليبرالية في صوفيا، فإنه يعتبر “الهجرة أفضل ثورة، لأنها ثورة الفرد على المجموع”.

ولا مهرب من أن يقدم جيل التكنولوجيا الشاب على مواجهة جيل الإيديولوجيا العجوز. وأخطر ما وصل إليه لبنان هو معادلة: لا ثورة ولا تطور.