هل يخشى النظام المالي التقليدي التغيير المقبل مع الأصول المشفرة؟


زيادة الشكوك حول قبول العملات الرقمية لدى البنوك المركزية

أحمد مصطفى صحافي متخصص في الشؤون الدولية 

تعهدت البنوك في الصين زيادة القيود على استخدام العملات المشفرة مثل “بيتكوين” و”إيثيريوم” وغيرهما، والعملات الرقمية الخاصة، كالتي سيصدرها “فيسبوك” ومرتبطة بالدولار.

تزامن ذلك مع قرار السلطات المالية في بريطانيا حظر أكبر شركة تداول وصرافة العملات المشفرة، مجموعة “بينانس”، من العمل في البلاد.

قلق يتصاعد

وتصاعدت حملة البنوك المركزية وسلطات المراقبة المالية وتنظيم الأسواق حول العالم على العملات المشفرة في الأشهر الأخيرة مع التقلبات الشديدة في قيمتها نتيجة عمليات المضاربة الكثيفة، وكذلك مع الزيادة في عمليات السرقة والنصب والقرصنة بهدف الفدية التي تستخدم فيها “بيتكوين” ومثيلاتها.

لكن القلق لدى المسؤولين عن النظام المالي الرسمي في الاقتصادات الكبرى من العملات المشفرة والعملات الرقمية الخاصة، يتصاعد منذ فترة، خصوصاً خلال عام وباء كورونا (2020)، إذ أقبل الملايين حول العالم على سوق المشفرات بكثافة.

في البداية، تفاءل أنصار المشفرات بأن هذه الموجة ستعني “اعتياد” العالم على العملات الرقمية، ما يسهل اندماجها في النظام المالي العالمي. وبالفعل، بدأت السلطات المالية حول العالم تدرس سبل تنظيم المشفرات وتقنينها ضمن القواعد واللوائح التي تحكم القطاع المالي الرسمي، لكن العملات المشفرة تستمد ميزتها الأساسية من كونها لا تخضع لأي نظام أو سلطة، وإنما هي عبارة عن سطور معقدة من البرمجيات الكمبيوترية على شبكة مؤمنة على الإنترنت، هي “بلوكتشين”، ويتحمس لها أنصارها لما توفره من خصوصية مطلقة، بحيث لا يعرف من يملك ماذا ولا من يدفع كم لمن.

تضارب أساسي

وكان لتسجيل شركة “كوين بيز”، أكبر شركة لتداول العملات المشفرة في الولايات المتحدة، على مؤشرات الأسهم في بورصة “وول ستريت” في نيويورك في أبريل (نيسان) الماضي، وقع إيجابي على احتمال دخول العملات المشفرة في النظام الرسمي، لكن، في النهاية، أدرجت “كوين بيز” على أنها تتداول في الأصول الرقمية المشفرة ومشتقاتها، وأصبح ذلك تأكيداً رسمياً آخر على أن “بيتكوين” ونحو عشرة من أمثالها ليست “عملة” وإنما مجرد أصول رقمية.

تلك النظرة تبنتها من البداية البنوك المركزية الرئيسة في العالم، مثل “البنك المركزي الأوروبي وبنك إنجلترا المركزي وبنك الشعب الصيني والاحتياطي الفيدرالي الأميركي”، إذ إن المشفرات لا تتوافر فيها مقومات العملة.

وفي بداية فبراير (شباط) 2021، وفي ندوة نظمتها “الإيكونوميست”، أكدت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد، هذا النهج، وكررت أن “بيتكوين” وغيرها من العملات المشفرة ليست عملة، ولا تلبي المعايير الثلاثة الأساسية للعملة، كما أنها ليست مستقرة بالشكل الذي يجعلها عملة، وأضافت، “هي أصل تداول رقمي أو أصل مشفر فحسب”.

وتابعت لاغارد أن “بيتكوين” “حسب معاييرنا ليست عملة، وإن جادل البعض بأنها تملك معياراً من معايير العملة فهذا لا يجعلها عملة”. واستبعدت أن تضيف البنوك المركزية في العالم “بيتكوين” أو العملات المشفرة ضمن سلة العملات التي تتكون منها احتياطاتها النقدية، وقالت، “هذا أمر غير مطروح أصلاً”، وخلصت إلى أن البنك المركزي الأوروبي ينظر إلى تلك العملات المشفرة على أساس ما هي عليه: أصول رقمية تخضع للمضاربة وليست منظمة من أي جهة.

ويعني عدم توافر مقومات العملة من حيث أن يصدرها بنك مركزي، وتدعمها سياسة نقدية، وتكون مدعومة من اقتصاد دول، ولها قيمة للتداول تجعلها وسيلة مدفوعات، أنها ستكون بالتأكيد في حالة تضارب أساسي بينها وبين العملات الوطنية الرسمية.

وحتى مع ارتباط العملات المشفرة بعملة رسمية، كالدولار أو غيره، فإنها ليست عملة مدفوعات شائعة، إذ لا تخضع لأي تنظيم أو لوائح وضمان قيمة، كالتي توفرها البنوك المركزية للعملات العادية.

العملات الرقمية الوطنية

وقد فرضت العملات المشفرة على البنوك المركزية والسلطات المالية ضرورة الإسراع في إطلاق عملاتها الرقمية الرسمية لاحتواء التطورات.

وبدأت الصين تجريب استخدام اليوان الرقمي، الذي تعمل على إصداره منذ نحو ست سنوات، كذلك بدأ البنك المركزي الأوروبي الاستعداد لإصدار اليورو الرقمي، والحال نفسها في معظم الاقتصادات الرئيسة.

والهدف من إطلاق العملات الرقمية الوطنية هو تلبية الطلب الجماهيري على التعامل المالي الرقمي من ناحية ومواجهة التحدي الذي أصبحت تمثله العملات المشفرة والعملات الرقمية الخاصة من ناحية أخرى.

وقبل يومين، شن مسؤول كبير في الاحتياطي الفيدرالي هجوماً على العملات الرقمية الخاصة، وقال إيريك روزنغرن، رئيس الاحتياطي الفيدرالي لبوسطن إن “العملات الرقمية الخاصة مثل تيزر تمثل تحدياً للاستقرار المالي”، وإن “البنك المركزي الأميركي يراقب هذا الوضع”، ووصف روزنغرن تلك العملات بأنها “مثيرة للاضطراب في الأسواق” وتضر بسوق الائتمان قصير الأجل.

ويعد ذلك أول هجوم مباشر من مسؤول كبير في الاحتياطي الفيدرالي على العملات الرقمية، وربما يعني ذلك أن البنك المركزي الأميركي سيبدأ دراسة طرح العملة الرقمية، بعدما أشارت وزيرة الخزانة جانيت يلين إلى موافقتها على ذلك.

استمرار المشفرات

لكن إصدار العملات الرقمية الوطنية لن يعني نهاية العملات المشفرة، إنما سيستبعدها من مجال المدفوعات والتحويلات، وستبقى المشفرات كأصول استثمار رقمية، لكن ذلك يحتاج إلى تنظيم وإخضاع تلك الأصول للقواعد واللوائح التي تحكم عمل الأسواق.

ويردد أنصار العملات المشفرة أن النظام المالي التقليدي يخشى “الحرية” التي تتيحها المشفرات، وأن القائمين على ذلك النظام على قدر من الجمود الذي يكافح التغيير والتطوير، لكن، في النهاية، تحتاج الأسواق إلى تنظيم ما بما يمثل ضمانة للمستثمرين والمتعاملين.

وفي الأشهر الماضية، زادت عمليات النصب والاختلاس والجرائم المالية المختلفة المرتبطة بالعملات المشفرة، ذلك لأن معظم شركات تداولها وصرافتها مسجلة في بلدان ومناطق حرة و”أوفشور” تتيح لها التعامل من دون أي ضوابط، فشركة “بينانس”، على سبيل المثال، مسجلة في جزر كايمان وهي منطقة “أوفشور” تتمتع بحرية حركة الأموال، وكذلك الحال مع شركات مماثلة منها “سويس بورغ”.

وربما يكون المدخل المتاح للعملات المشفرة لتدمج في النظام المالي الرسمي هو تنظيمها كأصول تداول رقمية في الأسواق مثلها مثل المشتقات الاستثمارية الأخرى.