من أوراق التاريخ المنسيّة، تلك الثورة الهايتية الرهيبة التي أخضعت 3 جيوش أوروبية استعمارية
عندما أسر الفرنسيون قائد الثورة الهايتية، الجنرال- والعبد السابق- توسان لوفرتير قال كلمته الشهيرة: “من أجل إطاحتي، قطعتم جذع شجرة الحرية. لكنها ستنبت مرةً أخرى من الجذور لأنها عتيدةٌ وعميقة”. وبعد شهورٍ قليلة من اعتقاله، توفي لوفرتير في زنزانةٍ انفرادية في فرنسا، لكنّه كان أحد أبرز القادة الذين واجهوا الاستعمار الفرنسي في التاريخ.
لهذه الثورة رمزيتها الخاصّة، وربما لا نعرف عنها كثيراً في عالمنا العربي، ربما لأنّها بعيدة عنا، ولأنه كان لدينا عبر التاريخ نضالنا نحن الآخر ضدّ الاستعمار الفرنسي والبريطاني كذلك والإيطالي. ولكن على كلّ حال، كانت الثورة الهايتية هي أوّل ثورة عبيد في التاريخ تنجح في تأسيس جمهورية تحترم جميع مواطنيها.
جميعنا يعرف مغامرة سبارتاكوس، أشهر قائد لثورة عبيد في التاريخ. لكنّ ثورته لم تنجح في القضاء على الإمبراطورية الرومانية ولا تأسيس دولة للعبيد يكونون فيها مواطنين وليس عبيداً. لكنّ الثورة الهايتية استطاعت تحقيق ذلك الحلم البعيد.
الثورة الهايتية ضدّ الاستعمار الفرنسي.. نضال 13 عاماً!
في ليلة الأحد 14 أغسطس/آب من عام 1791 اجتمع 200 رجل من الأفارقة المُستعبَدين في جزيرة هايتي. كان المجتمعون يمثِّلون 100 مزرعة في مستعمرة سان دومينغ الفرنسية في جزيرة هيسبانيولا الكاريبية (التي تقع فيها الآن هايتي وجمهورية الدومينيكان)، اجتمعوا لمناقشة خطط الثورة.
كان المجتمعون يدركون تماماً مجريات الثورة في فرنسا التي قامت منذ سنةٍ ونيف عام 1789، وكانوا مدركين عدم الاستقرار الذي تسبَّبَت فيه الثورة الفرنسية داخل المستعمرة نفسها، فاجتمعوا ليقرِّروا موعد الانتفاضة التي يحرِّرون فيها أنفسهم وينهون بها نظام الاستعباد بأكمله.
كان أحد أبرز القادة الأوائل لهذه الثورة رجل يدعى دوتي بوكمان، الذي طَلَب من الحاضرين “الاستماع إلى صوت الحرية الذي يتحدَّث في قلوبنا جميعاً”. كان بوكمان إفريقياً مستعبداً في جامايكا، وبعد شهور قليلة من قيادته للثورة قتله الفرنسيون في نوفمبر/تشرين الثاني 1791 وعرضوا رأسه على الملأ ليبدّدوا الهالة التي كانت حوله من كونه “زعيماً لا يقهر”.
بدأت الثورة في مستعمرة سان دومينغ الفرنسية ليلة 22 أغسطس/آب 1791 (أي بعد 8 أيام فقط من اجتماع القادة).
بدأت الثورة بإحراق المزارع وقتل أصحاب المزارع المستعمِرين الذين كانوا مكروهين بطبيعة الحال.
كان الأفارقة المُستعبَدون من المقاطعات المختلفة ينضمون للثورة، ويسلِّحون أنفسهم بأيِّ أسلحةٍ يمكنهم العثور عليها. وفي غضون شهرٍ واحد، كانت الثورة هي الأكبر على الإطلاق في قارة أمريكا الشمالية، إذ ضمَّت أكثر من 100 ألف من الأفارقة المُستعبَدين.
أُضرِمَت النيران في ألف مزرعة، وقُتل أكثر من ألف أوروبي، وقد كانت هذه بداية ثورةٍ ليس إلا، ثورة استمرَّت طيلة 13 عاماً.
العبودية في جزيرة هسبانيولا
كانت إسبانيا قد تنازَلَت عن مستعمرة سان دومينغ، الواقعة في الجزء الغربي من جزيرة هيسبانيولا، لفرنسا عام 1697. وبحلول نهاية القرن الثامن عشر، عُرِفَت المستعمرة باسم “لؤلؤة جزر الأنتيل”، كونها أغنى مستعمرات البحر الكاريبي، إذ كانت تنتج حوالي نصف السكر والبن في العالم كلّه. وقد مثَّلَت وحدها 40% من تجارة فرنسا الخارجية.
هذه الثروة الهائلة التي تمتّع بها الاستعمار الفرنسي، كان وقودها 500 ألف من الأفارقة المُستعبَدين الذين عملوا في أكثر من 8 آلاف مزرعة، وكانوا يمثِّلون أكبر عددٍ من السكَّان المُستعبَدين في منطقة البحر الكاريبي كله والتي تضم كوبا وجامايكا وبورتوريكو وهايتي والدومينيكان وعدّة جُزر أخرى.
كان الأفارقة المُستعبَدون يُستورَدون من قِبَلِ الإسبان في البداية، ولكن سرعان ما أدَّى احتلال الإسبان لجزيرة هيسبانيولا إلى انقراضٍ وشيك للسكَّان الأصليين للجزيرة.
أمام حقيقة الانقراض الوشيك للسكان الأصليين في الجزيرة، اخترعت فرنسا نظاماً جديداً. كان متوسِّط عمر الأفارقة المُستعبَدين يتراوح بين 7 إلى 10 سنوات فقط. لذلك، كان لا بد من تجديد السكَّان المُستعبَدين باستمرار؛ بحوالي 30 ألف إفريقي جديد كلَّ عام، وبالتالي كان حوالي 70% من السكَّان المُستعبَدين من مواليد إفريقيا بالأساس.
جاء حوالي 60% من هؤلاء الأفارقة المستعبدين من أنغولا والكونغو، لكنَّهم شملوا أيضاً العديد من نيجيريا وتوغو. وفي أيِّ مزرعةٍ كانت في الجزيرة كان هناك ما لا يقل عن 20 لغة إفريقية منطوقة.
كانت مستعمرة سان دومينغ فريدة من نوعها، إذ لم يكن لديها فقط عددٌ كبيرٌ من الأفارقة المُستعبَدين، بل كان هناك عددٌ كبيرٌ وُمتنوِّعٌ من السكَّان، فقد كان هناك حوالي 30 ألف فرنسي.
وقد استاء كثيرون من السيطرة الملكية على المستعمرة، وكان لديهم أملٌ في الاستقلال عن فرنسا، وكانت هناك أيضاً انقساماتٌ بين أصحاب الأملاك الأغنياء والمستعمرين الأفقر.
ولكن، لعلَّ الأهم من كل ذلك هو أن المستعمرة كان تضم عدداً كبيراً من المتمرِّدين ممّن أطلق عليهم “المُلوَّنين الأحرار”. وهم أولئك الذين لم يكونوا أوروبيين ولا أفارقة مُستعبَدين، هم بين الفريقين، وقد بلغ عددهم حوالي 30 ألفاً، وكانوا يفوقون الأوروبيين عدداً في اثنتين من المقاطعات الثلاث للمستعمرة. وشمل هؤلاء أيضاً مُستعبَدين سابقين، وكذلك أطفالُ الأوروبيين الأثرياء من النساء المُستعبَدات أو الناس المُلوَّنات.
وقد كانت الفئة الأغنى من بين “المُلوَّنين الأحرار” هؤلاء تمتلك حوالي ربع الأرض وثلث جميع العبيد في المستعمرة.
وقد خدم الكثيرون منهم في الكفاح العسكري من أجل استقلال المستعمرات الأمريكية. ومع ذلك، كان هؤلاء لا يزالون يتعرَّضون للتمييز من قبل الفرنسيين، ويُمنَعون من تولي المناصب العامة والعمل المهني، وحتى من ارتداء ملابس معينة وركوب العربات.
الأهم من ذلك كله هو أنه كان للبعض أيضاً روابط قوية مع حركة إلغاء حكم الإعدام الناشئة في فرنسا، والتي شجبت نظام العبودية، وكان لهم روابط قوية أيضاً مع أفكار التنوير والحرية والمساواة، وبدأوا يطالبون بحقوقهم.
أدَّى سقوط النظام الملكي في فرنسا إلى مزيدٍ من عدم الاستقرار في المستعمرة، وبدأت تتصاعد المطالبة بالاستقلال، ورفع المُلوَّنون الأحرار مطالبهم بالمساواة. وفي عام 1790، حين رُفِضَ المطلب الأخير، نُظِّمَ تمردٌ وقُمِعَ بعنف، وتعرَّض زعيم التمرُّد، فينيسينت أوجي، للتعذيب وأُعدِم.
في هذا الوضع غير المستقر والوحشي، تمرَّد الأفارقة المُستعبَدون أنفسهم في 22 أغسطس/آب 1791 فيما عرف بالثورة الهايتية، بينما نظَّم الأحرار المُلوَّنون تمرُّداً آخر طالبوا فيه بالحقوق نفسها التي يتمتَّع بها السكَّان البيض.
الغزو الفرنسي
انتشر التمرُّد وانضمّ الكثيرون للثورة، وقد كان للعديد من الأفارقة المستعبدين وكذلك للكثير من المُلوَّنين الأحرار، خبرةٌ عسكرية جيدة.
استولى غالبية العبيد على المزارع وبدأوا في فرض أنفسهم مزارعين يزرعون طعامهم ومحاصيلهم لأنفسهم. وفي سبتمبر/أيلول 1792، في محاولةٍ من الاستعمار الفرنسي لاستعادة النظام، أرسلت فرنسا جيشاً مكوناً من 6 آلاف جندي إلى سان دومينغ، كان هذا الجيش بقيادة ليغر فيليسي سونثوناكس.
في البداية، تحالَفَ القائد الفرنسي بشكلٍ أساسي مع المُلوَّنين الأحرار المُنتفِعين من أجل قمع الثورة. لكنّ بعض القوات الفرنسية تمرّدت في عام 1793، فأصبحت مهمّة أصعب.
في نفس الوقت أعلنت كلٌّ من إنجلترا وإسبانيا الحرب على الثورة الفرنسية، وأرسلت قواتٍ لغزو مستعمرة سان دومينغ. ومن أجل استعادة النظام في المستعمرة أُجبِرَ القائد الفرنسي على إصدار مرسومٍ يقضي بإلغاء العبودية في المستعمرة في أغسطس/آب 1793، أي بعد سنتين فقط من الثورة.
في هذه الأجواء حاول جميع أصحاب المصالح في المستعمرة (الفرنسيون والإسبان والبريطانيون وبعض الملونين الأحرار) حاولوا جميعاً تجنيد جيوشٍ من العبيد المتمرِّدين.
وفي هذه الفترة المضطربة، ظهر توسان لوفرتير زعيماً رئيسيّاً للثورة الهايتية. ولد لوفرتير عبداً في مستعمرة سان دومينغ، ولكنّه مع الوقت أصبح مالكاً صغيراً للعبيد. ويبدو أنّه شارك في التخطيط المبكّر للثورة على الاستعمار الفرنسي، وقد حارب من أجل الإسبان وحقق انتصارات على الفرنسيين، ولكنّه لاحقاً بسبب تحقيقه انتصاراتٍ عديدة وبزوغ نجمه انضمّ للفرنسيين عام 1794 وعيّنوه نائباً للحاكم والقائد العام للجيش الفرنسي في مستعمرة سان دومينغ. لكن يبدو أنّ لوفرتير كان لديه هدفه الخاص: الاستمرار في تعزيز مصالح المُستعبَدين مع إعلان الولاء لفرنسا.
وسرعان ما حقَّقَ لوفرتير انتصاراتٍ عسكرية ضد إسبانيا، التي انسحبت من سان دومينغ عام 1795، وبريطانيا، التي اضطرت للانسحاب عام 1798. وفي عام 1800، من خلال دبلوماسيته الماهرة، وانتصاراته العسكرية، كان لوفرتير قد سيطَرَ بالكامل على مستعمرة سان دومينغ.
وفي عام 1801، احتلَّ أيضاً مستعمرة سانتو دومينغو الإسبانية السابقة. أسَّسَ لوفرتير نظاماً جديداً للحكومة أعطاه بعض السلطات الديكتاتورية، فضلاً عن تأسيسه أنظمة قانونية وتعليمية جديدة.
كما سمح لوفرتير لبعض المزارعين الفرنسيين بالعودة لتعزيز الاقتصاد والانخراط في مفاوضاتٍ تجارية ومفاوضاتٍ أخرى مع حكومتيّ بريطانيا والولايات المتحدة.
لم يلق نظام لوفرتير الجديد استحساناً لدى الجميع، إذ فضَّلَ العديد من العبيد السابقين زراعة أراضيهم الخاصة بدلاً من العمل لصالح الحكومة، واضطر لوفرتير إلى قمع تمرُّدٍ كبير قاده ابن أخيه بالتبني، الجنرال مويس. ومع ذلك، كانت هناك بعض النجاحات الملحوظة، وعاد إنتاج البن إلى 60% من مستويات ما قبل الثورة.
نابليون بونابرت يقضي على لوفرتير
عارَضَ نابليون بونابرت، الذي استولى على السلطة عام 1799، وضع لوفرتير القوي والاستقلال الفعلي للمستعمرة. وفي عام 1802، شنَّ نابليون غزواً جديداً على سان دومينغ، ما أدَّى إلى أعنف جزءٍ من الثورة.
حاوَلَ الفرنسيون استعادة السيطرة على سان دومينغ دون صراعٍ كبير، بشكلٍ رئيسي عن طريق الخداع، رغم وجود جيشٍ قوامه 20 ألف جندي. وأُقنِعَ العديد من كبار الجنرالات في جيش لوفرتير بالاستسلام.
في النهاية حوصِرَ لوفرتير من قِبَلِ الفرنسيين واعتُقِلَ ورُحِّلَ إلى فرنسا، حيث تُوفِّيَ في السجن عام 1803. ليقول عند اعتقاله للفرنسيين: “من أجل إطاحتي، قطعتم جذع شجرة الحرية. لكنها ستنبت مرةً أخرى من الجذور لأنها عتيدة وعميقة”.
في ذلك الوقت كان جيش الاستعمار الفرنسي قد فَقَدَ بالفعل 8 آلاف رجل جرَّاء الحرب والمرض، واستمرَّت مقاومة الغزو الفرنسي.
أثارت حكومة نابليون بعد ذلك مقاومةً أكبر بقوانينٍ جديدة أعادت ترسيخ العبودية في جميع المستعمرات الفرنسية، ومنع جميع المُلوَّنين من دخول فرنسا. ومن ثم عاد جنرالات لوفرتير (الذين استسلموا لفرنسا سابقاً) واحداً تلو الآخر وجيوشهم من العبيد السابقين، إلى المقاومة، التي صارت تضم المُلوَّنين الأحرار أصحاب الامتيازات.
ولأول مرة، توحَّدَت المقاومة من جديد تحت قيادة جان جاك ديسالين، وقد كان عبداً سابقاً. وكان هدف المقاومة بالطبع هو إخراج الفرنسيين بالكامل من سان دومينغ.
ورغم أن قوات الغزو حاربت المقاومة بكلّ عنفٍ ممكن، وارتكبت العديد من الفظائع إلا أنّها لم تتمكَّن في النهاية من الحفاظ على احتلال سان دومينغ.
في 18 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1803 هَزَمَت القوات الثورية الجيش الفرنسي في معركة فيرتيير، مِمَّا أدَّى إلى استسلام الغزاة بشكلٍ نهائي. هَزَمَ شعب سان دومينغ الجيوش الرئيسية الثلاثة في أوروبا، وحرَّروا أنفسهم أخيراً من العبودية والعنصرية.
وفي الأول من يناير/كانون الثاني 1804، أعلن ديسالين إنشاء جمهورية هاييتي الجديدة، التي سُمِّيَت بالاسم الذي أطلقته قبائل التاينو الأصليون على جزيرة هيسبانيولا، وقد قال ديسالين: “لقد قدَّمت الدم بالدم للسفاحين الفرنسيين، لقد انتقمت لأمريكا – المستعمرة”.
كان إعلان الجمهورية هذا تتويجاً للثورة الوحيدة الناجحة للعبيد في تاريخ البشرية، والتي أدَّت إلى تشكيل أول جمهورية إفريقية حديثة، لكنّها جمهورية وحكومة إفريقية خارج القارة الإفريقية نفسها. وقد أُنشِئ هناك أول مفهومٍ حديث لحقوق الإنسان، مع دستورٍ جديد يعترف بحقوق جميع المواطنين على أنهم أحرارٌ متساوون.