أوهام المؤتمرات!


عادة ما يؤجل المؤتمر ومعه حل المسألة مما يمنح المشكلة فسحة كي تستفحل

أحمد الفيتوري كاتب 

ولدت وعشت في عصر المؤتمرات، الذي صار قوي العضلات بفضل عصر الفضاء، بعد أن تسنى للبشر مشاركة الطير، بل الاستيلاء على السماء. وتمكن من السفر منذ ذلك الوقت، القادة والزعماء ومن في حكمهم مثل الأثرياء والعلماء والتكنوقراط ونجوم الفن والصحافة… وهلم.

وعلى ذلك بدأت الاجتماعات، فاللقاءات تيسرت في قاعات ملكية بفنادق فخمة، حيث توفر كل المشتهى، ووجد أصحاب شركات الطيران والفنادق وسيلة ميسرة للكسب وأرباحها عالية ولها رونق مميز، خصوصاً أن وسائل الإعلام كذلك مهتمة بما حصلت عليه، فصار لها متخصصون في هذا المجال، يمارسون التغطية الإخبارية والتعليقات والتحاليل.

كانت الأضواء أيضاً قوية بعد أن باتت الصورة إلهاً وثنياً جديداً، فإذا كان عصر الفضاء المقوي الفعال لولادة عصر المؤتمرات، فالفضل لعصر الكاميرا ليترعرع عصر المؤتمرات، ومن هذا يصح لي أن أعتبر القرن الـ 20 أم وأب الحقبة البشرية الثانية، معتبراً كل ما قبله حقبة واحدة، وأن ما بعد الـ 20 جب ما قبله، مثل أن ما بعد الحداثة قام لتحطيم السرديات الكبرى وأحادية الوجود واليقين المعرفي!

وبهذا الاندغام للكلام في الصورة، انبثق عصر المؤتمرات كعالم واقعي يشبه السينما التي تعتبر فناً وتخييلاً، إذ له تقريباً عناصر سينمائية من عدسات ونجوم وسيناريو ومخرج. المؤتمرات لا بد من أن تكون تحت الأضواء في الغالب وحتى السرّي منها، تسلط الأضواء على سريته قبل أو بعد.

وتحت هذه الأضواء، تخرج المانشيتات الصحافية والبيانات، وتعقد المؤتمرات الصحافية، حيث تطلق التصريحات وصرخات الموضة والعجائبية، فالمؤتمرات سر وجودها في أنها تتوالد بجذر تربيعي، ولو كان ثمة مرصاد في المريخ يرصد ظواهر الأرض، ويؤول الحياة البشرية بأنها مؤتمر يتلو مؤتمر، ثم يلتبس عليه الأمر حتى يعد حفل ميلاد أو موت مؤتمراً.

لم تعد الحياة، وعلى رأسها الحياة السياسية ممكنة، من دون مؤتمر ينطح مؤتمراً، مما يستدعيه أن المسائل الحياتية غدت كما مسائل الميتافزيقيا، وتستدعي محاورات مطولة منطقية فلسفية، وإذا كان كثر يسخرون من المعضلة البيزنطية “البيضة قبل أم الدجاجة”، فإنها حقاً مسألة فلسفية لم يخلقها الجدل البيزنطي، وكأن من هذا يطرد عصر المؤتمرات، فتستفحل المؤتمرات حتى يظن الظانون أنها من لزوم ما لا يلزم، وذلك حين يغيب عنهم أن المؤتمرات ليست لأجل ما تظهر به، بل على عكس ذلك، فكل مؤتمر كما جبل الثلج أو هو في الحقيقة مبحث في الضرورة وسيلته جدل بيزنطي، وكأن كل مؤتمر هو تمويه لما حاصل، خصوصاً عند السياسيين ومن في حكمهم.

لقد وقعت في حبائل هذا العصر الشائك، فلزم أن أبحث في فلسفة المؤتمرات لذاتها وسيمياء هذا العصر مما وصمته بالمؤتمرات، مما من سيميائه أن يحدث لحدوث مشكلة، فيعقد المؤتمر لإيجاد حل ما عادة يستعصي، مما يفرع المؤتمر لفروع المشكلة، ويعقد مع تفريعاته، ما يستلزم عقد مؤتمر جامع.

حبائل عصر المؤتمرات ليست من صنعه وحسب، بل كمسألة بيضة بيزنطا، لا تعرف ما القبل وما البعد، ومن نتائج المؤتمرات المعتادة أن يؤجل المؤتمر وعليه يؤجل حل المسألة، فيمنح المشكلة فسحة كي يستفحل، وعند ذلك يعقد مؤتمر لما استفحل.

حين كنت صغيراً، وفي أحايين كثيرة، كنت أسمع رجال العائلة يسخرون من بعضهم عند تعقد مسألة ما، “دير له لجنة”، أي كوّن لجنة، فطول الخيط يضيع الإبرة، وحين كبرت وجدت أن العالم يتنفس مؤتمرات ولجان، ومن حسن حظي أن أغلب عمري كان في عهد العقيد معمر القذافي القائد المعلم والمفكر القائد، مبدع النظرية العالمية الثالثة، مما صاغها في الكتاب الأخضر، في فصوله الثلاثة، بحلولها النهائية، والفصل الأول منها عن المشكلة السياسي، وكان الحل النهائي في كل منطقة مؤتمرات شعبية في القاعدة، وفي قمة الهرم لجان شعبية، ثم يجمع ذلك مؤتمر الشعب العام، وهكذا عبقرية هي عصر الجماهير في عصر المؤتمرات واللجان.

ولدت وعشت في عصر المؤتمرات، والبلاد التي أنتمي إليها أسقطت عصر القذافي صاحب نظرية المؤتمرات الشعبية، لتقع تحت طائلة عصر المؤتمرات التي تتناسخ وتنبثق من بذرة ميتة شجرة حية.

مؤتمرات تتشعب كأشجار الشوك الشائكة في كل زمان ومكان تعقد في قاعات ملكية بفنادق فخمة، حيث توفر الحلال والحرام وكل المشتهى، ولا سلام ولا وئام، فالمؤتمر يكتفي فيه وبه أن المؤتمرين في مؤتمر والسلام.