لبنان المفترى عليه!


رغم ما واجهه من مصاعب وأزمات يظل أيقونة العالم العربي بموقعه الفريد وتاريخه القريب والبعيد

مصطفى الفقي كاتب وباحث 

بي ضعف شديد تجاه القطر اللبناني، دولة شعارها شجرة الأرز وتاريخها تختلط فيه الأنماط البشرية والنماذج التاريخية، دولة هي موزاييك من مختلف ألوان الطيف السياسي تتجاور فيها الأديان والعقائد في تداخل قومي رائع. على الرغم من كل ما اعتراه ذلك من مشكلات وما واجه من مصاعب وأزمات، إلا أن لبنان يظل أيقونة العالم العربي، متألقاً على الرغم من مشكلاته، صامداً أمام أزماته، يدفع ضريبة غالية لموقعه الفريد وتاريخه القريب والبعيد. إنه لبنان الجبل والبقاع، لبنان بشير وفؤاد الشهابي، لبنان الموارنة والسُنّة والشيعة والأروام في سبيكة واحدة متميزة، لا نكاد نعرف لها مثيلاً. فاللبناني نشيطٌ بطبعه، مقبل على الحياة، عاشق للمظاهر، مولعٌ بالفنون، ماهر في التجارة، يستطيع الوصول إلى مصالحه بغض النظر عن أفكاره ومعتقداته، فهو مواطن عملي بامتياز يتعايش مع الصراعات ويتأقلم مع الأحداث مؤمناً بالحرية، عاشقاً للفنون، متميزاً في الطرب موسيقى وغناء، فهو لبنان فيروز وصباح ووديع الصافي، وهو أيضاً الذي تتباين فيه شخصيات وتتعدد الخلافات. إنه لبنان كميل شمعون وبيار الجميل ورشيد كرامي، وهو أيضاً لبنان ميشال عون وحسن نصر الله، ولبنان رفيق الحريري الذي كان يمثّل حلقة الوصل في مرحلة معينة بين الواقع اللبناني والسياسة السعودية في المنطقة. إنه البلد الذي اختار له عبد الناصر ضابطاً مرموقاً هو عبد الحميد غالب ليكون سفيراً أقرب إلى المندوب السامي في بعض اللحظات، وما زلت أتذكر حتى اليوم عندما كان حميد فرنجية مرشحاً لرئاسة الجمهورية بدعم ناصري وغيّرت القاهرة موقفها عشية الاختيار، لكي يأتي شارل حلو رئيساً لتلك الدولة المتألقة.

لذلك أستطيع القول إن لبنان عرف أحقاباً متوالية من النفوذ العربي بدءًا من الحقبة الناصرية إلى الحقبة السعودية مع مظلة دائمة للوجود السوري على الأرض من منطق جمعي، يؤمن بالتعايش المشترك بين كل الألوان والأطياف عقائدياً وسياسياً بل واقتصادياً أيضاً. ولأنه كان دائماً محصلة الصراعات في المنطقة والدافع الأكبر لفاتورة غيره، فإنني أكتب عنه اليوم بتعاطف واضح، ذلك أنني أؤمن بحق أنه مفترى عليه، ويقودني ذلك إلى عدد من النقاط، أوجزها في ما يلي:

أولاً: إن لبنان جزء لا يتجزّأ من أمته العربية، يعيش آمالها ويعاني مشكلاتها ويدفع مقدماً تكاليف صراعاتها، فذلك البلد العربي الجميل الذي كنّا نسمّيه “سويسرا الشرق” قد عرف الأشلاء والدماء والاضطراب والفوضى في العقود الأخيرة، ومرّ بحرب أهلية ضارية استمرت لأكثر من خمسة عشر عاماً وظل دائماً صامداً أمام الأحداث، يواجه الخطوب بإرادة الحياة والرغبة الدائمة  بالاستمرار والتألق. ولذلك، فإننا عندما نتحدث عن النموذج اللبناني، إنما نشير إلى فرادته وتنوع التجمع السكاني على أرضه ونذكر له دائماً أنه لبنان الفكر والأدب والجمال والرقي.

ثانياً: إن لبنان مصدر قومي للحركات التي شهدها العرب وعرفها تاريخهم الحديث، فالحركة القومية ولدت في لبنان وازدهرت في الشام وتألقت في المهجر ثم أصبحت عربية خالصة بفضل الرواد الأوائل والمفكرين العظام الذين حملوا لواءها وانتشروا بها، بل إن عصر النهضة المصري، منذ حكم الخديوي إسماعيل حتى نهاية عصر الملك فاروق، كانت مرتبطة في معظمها بأسماء من أصول شامية بل وربما لبنانية تحديداً، فنحن نذكر أدباء لبنان ومفكريه وكتّابه وصحافييه، بدءًا من الأخوين تقلا، مروراً بجورجي زيدان، وصولاً إلى كريم خليل ثابت وغيرهم من الشعراء والأدباء والمؤرخين والصحافيين الذين ازدهرت بهم القاهرة والإسكندرية، وبدأ خط التواصل مع بيروت ودمشق وبغداد لكي تتمثل موجة كبرى من الاستنارة التي حمل لواءها شوام لبنانيون على أرض مصر التي شكّلت التربة الخصبة للأفكار الكبرى والأعمال الخالدة. لذلك، فإن العلاقات بين مصر ولبنان هي علاقات وثيقة وعميقة في الأدب والفن، في الموسيقى والغناء، وسوف يظل اسم فريد الأطرش رمزاً ساطعاً في سماء العلاقة بين المركزين الرئيسَين للفنون في المشرق العربي، وأعني بهما بيروت والقاهرة وسوف نلاحظ أن العلاقة بينهما متكاملة. فعندما أطلت الحرب الأهلية على لبنان بوجهها الكئيب، فإن مصر لم تزدهر بديلاً عنه، بل تراجعت الحركة الأدبية والفنية فيها وكأن ذلك تضامن معه وارتباط به.

ثالثاً: إن العلاقات اللبنانية الخليجية، خصوصاً مع السعودية وثيقة وقوية، فقد سعى اللبنانيون إلى ارتياد تلك الأرض المعطاءة، ولعل نموذج رفيق الحريري هو تجسيد للعلاقة بين الرياض وبيروت وما يؤثر فيها ويمضي فيها. يبقى أن نؤكد أن الوجود الإيراني في الجنوب اللبناني أصبح يمثّل قضية مثيرة للجدل، لا نكاد نعرف لها مثيلاً في أنواع التسلل السياسي تحت مظلة طائفية مثلما هو الأمر الحادث حالياً، إذ يسعى “حزب الله” إلى امتلاك “الثلث المعطل” في السياسة اللبنانية ويضع قيداً حقيقياً على حرية الرأي وديمقراطية المؤسسة النيابية، وهنا نعود لنقول مرة ثانية إنه لبنان المفترى عليه من كل اتجاه.

رابعاً: إن إسرائيل تنظر بحسدٍ واضح وقلقٍ مستمر إلى النموذج اللبناني لأنه كان التهديد الأول لادّعائها بأنها واحة الديمقراطية، وأنها امتداد للحياة الغربية في تقدمها وارتباطها الوثيق بأساليب المعيشة الغربية والأنماط الحديثة في المعاملات والخدمات والسياسات. وما زلت أتذكر أن أستاذنا الراحل بطرس بطرس غالي كان يتوقع أحياناً في منتصف الستينيات من القرن الماضي أن لبنان هو النموذج الأقرب إلى توقيع اتفاق مع إسرائيل، فإذا بالدولة العربية الكبرى مصر هي التي تكون أول من وقّع وآخر من طبع! ولذلك تستهدف إسرائيل دائماً الدولة اللبنانية وترى في ذلك النموذج خطراً عليها وتهديداً لها ومنافساً قوياً أمام الغرب وأوروبا تحديداً. وحين تتردد مقولة إن لبنان “سويسرا الشرق”، فإن الاستهداف يزيد ومحاولة تعويق المسيرة اللبنانية تكون أكثر وضوحاً وتركيزاً.

خامساً: إن العلاقات اللبنانية الفرنسية ذات خصوصية معروفة منذ أن اختارت باريس الموارنة لكي يكونوا أقرب الطوائف إليها في المشرق العربي، مثلما اختارت بريطانيا الدروز لشيء من ذلك، ومضى أهل السُنّة في علاقات وثيقة مع مصر الأزهر ثم السعودية، ومضت العلاقات بين شيعة لبنان وإيران في طريق هادئ إلى أن قامت الثورة الإٍسلامية في طهران، فتغيّرت معالم الأحداث وتطلعت السياسة الإيرانية إلى لبنان كحليف يرتبط جنوبه بالدولة الشيعية الكبرى في طهران. ولقد أتاحت لي الظروف ذات مرة أن أتجول في الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث اكتشفت بوضوح أنها تكاد تكون جزءًا لا يتجزّأ من أحد الأحياء الإيرانية في بلادها، ولا تزال المواجهات مستمرة في العلن وفي الخفاء بين الوجود الإيراني في لبنان والسياسات الأخرى المعادية له والرافضة لوجوده. وعندما وقع الانفجار الأخير في ميناء بيروت، فإن أصابع الاتهام أشارت إلى “حزب الله” ويومها تحرّك العالمان العربي والأوروبي دعماً للبنان وحرصاً على الاستقرار فيه، خصوصاً أن الأوضاع القائمة ليست في أفضل حالاتها، سيما في الجانب الاقتصادي ومستوى المعيشة وعوائد الدخل القومي عموماً مع التدني الشديد لسعر العملة اللبنانية، إذ إن لبنان دولة خدمات، فالاستقرار مهم للغاية لازدهاره ولا مجال للحديث عن التقدم والنهوض في ظل العنف والاضطرابات التي تجري على أرضه. لذلك، فزع الغرب وجاءت أكثر من زيارة للرئيس الفرنسي ماكرون دعماً لذلك البلد العربي الذي يمثّل جسراً للتقارب مع أوروبا وفرنسا بصفة خاصة التي تتمتع في الوقت ذاته بجسور اتصال قوية مع عرب شمال أفريقيا، خصوصاً في تونس والجزائر والمغرب.

سابعاً: لقد عانى لبنان كثيراً من الطبقة السياسية التي توارثت السلطة والنفوذ بل والمال أيضاً لفترات طويلة امتدت من القرن التاسع عشر حتى الآن، وبرزت خلالها زعامات أثار دورها علامات استفهام كثيرة وانتهى الأمر بأن تحوّل لبنان المنكوب أحياناً إلى لبنان المنهوب دائماً، وظل الأمر على ما هو عليه حتى الساعة، ولن تنصلح حال لبنان إلا بصلاح الطبقة السياسية وكوادر الحكم فيها، خصوصاً أنه بلد منجب ومعطاء ويتميز بتفوّق العنصر البشري في المجالات كافة. بعد هذه السطور، ألا نشعر بحق بأن لبنان البلد العربي الجميل المزدهر دائماً حتى في أحلك لحظاته هو ذاته المفترى عليه؟!