“ليس في لقاء جنيف سوى ما في خارجه، فالصفقات الثنائية الواسعة بين الكبار صارت من زمان مضى”
رفيق خوري كاتب مقالات رأي
كما في واشنطن كذلك في موسكو، توقعات مخفوضة حول قمة جنيف بين الرئيسين جو بايدن وفلاديمير بوتين، وهي ليست اللقاء الأول بين الرجلين.
عام 2011 كان بايدن نائباً للرئيس، وبوتين رئيساً للوزراء واللقاء في موسكو، ويروي بايدن في مذكراته أنه قال لبوتين، “أنا أنظر في عينيك ولا أظن أن لديك روحاً”، لكنه بدا قليل الانزعاج ثم قال، “نحن نفهم بعضنا بعضاً”.
في عام 2021 استبق بوتين قمة جنيف بالقول رداً على توصيف بايدن له بأنه “قاتل”، “سمعت هذا غير مرة، ولا أشعر بالقلق والانزعاج”، فهذا يساعده عملياً في تخويف خصومه. ولم يتردد بايدن في الإعلان بأنه سيوضح للرئيس الروسي ما هو مقبول وما هو مرفوض أميركياً في سلوكه، ولا كان التحدي جديداً على بوتين الذي عاصر والتقى الرؤساء جورج بوش الابن الذي قال إنه رأى روح بوتين، و”يمكن العمل معه”، وباراك أوباما ودونالد ترمب ثم بايدن.
والدنيا تغيرت كثيراً منذ لقاءات ستالين مع روزفلت ثم ترومان، وقمم خروشوف مع أيزنهاور وكينيدي، وقمم بريجنيف مع نيكسون وريغان، وقمم غورباتشوف مع بوش الأب.
كان العالم كله ينتظر ويتأثر بما يحدث في تلك القمم من تفاهمات وخلافات بين الجبارين، واليوم يوزع بايدن اهتماماته بين الجبهة الداخلية المنقسمة وراءه، وبين تحديات الصين وروسيا، ويأتي بوتين مدعوماً من بكين التي وقفت في الماضي مع أميركا ضد الاتحاد السوفياتي، وغير مرتاح تماماً للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية على الجبهة الداخلية. بايدن، بحسب وزير الخارجية أنتوني بلينكن، يريد “الاستقرار الاستراتيجي وعلاقة مستقرة وقابلة للتنبؤ مع روسيا، ولكن إذا اختارت روسيا التصرف بطريقة عدائية تجاهنا أو تجاه شركائنا فسنرد على ذلك”.
غير أن بلينكن يفرّق بين تحديات الصين وتحديات روسيا، فالصين كما يعترف هي “الدولة الوحيدة ذات القوة الاقتصادية والديبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية التي من شأنها أن تهدد جدياً المنظومة الدولية المستقرة، وستكون علاقاتنا معها تنافسية عندما ينبغي، ومتعاونة حين تكون قادرة، ومخاصمة عندما يجب أن تكون”. أما روسيا التي “لا تزال تصر على تعزيز نفوذها العالمي فإن تهديدها يتسبب بحال من الفوضى على الساحة العالمية”.
في المقابل، فإن بوتين الذي كان خياره أن يلعب دور “الشريك الكامل” مع أميركا من موقع الند للند، يراهن على ما يسميه ملهمه ألكسندر دوغين “الحلم الأوراسي” ضد “الحلم الأوروبي”، وكل مسؤول روسي يرى بلاده في موقع القطب المقابل للغرب، لا الملحق به كما أراد الغرب بعد الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي، وقد فشل الغرب في الرهان على انخراط روسيا في المجتمع الأورو-أطلسي. ولذلك دعا توماس غراهام من مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك إلى تغيير التوجه تحت عنوان، “دع روسيا تكن روسيا”، وكان رأيه أن “أفضل مقاربة تبدأ من الاعتراف بأن العلاقات مع موسكو كانت دائماً تنافسية جوهرياً، منذ ظهور أميركا كقوة كونية حتى اليوم”.
لكن بوتين لاعب التايكواندو الذي يعرف كيف يضرب الخصم في نقاط ضعفه، ليس بلا نقاط ضعف، فهو “رجل روسيا القوي الضعيف” بحسب تيموثي فراي، أستاذ السياسة الخارجية بعد السوفيات في جامعة كولومبيا، ومؤلف كتاب “رجل قوي ضعيف: حدود القوة في روسيا بوتين”. لماذا؟ لأن بوتين يمارس ما يسميه أساتذة العلوم السياسية “الأوتوقراطية الشخصانية”، إذ يدير رجل واحد كل اللعبة في البلد، وهذا نموذج صار ظاهرة متوسعة في تركيا والفيليبين والمجر وبيلاروس وأذربيجان وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان، وهو يختلف عن حكم الحزب الواحد كما في سنغافورة وفيتنام، أو الحكم العسكري كما في ميانمار.
المشكلة في هذا النموذج أن اللاعب الوحيد على القمة يواجه خطرين، “خطر انقلاب النخبة عليه من فوقه، وخطر الاحتجاج الشعبي من تحته”، وعليه “السير فوق خط رفيع بين السماح للنخبة بالفساد على حساب الاقتصاد، وبين تحسين الاقتصاد لإرضاء الشعب على حساب النخبة”، وهو توازن صعب جداً ومرشح للاختلال في أي وقت، مهما يكن حجم القمع للمعارضين عبر استخدام القضاء والبوليس، فالقمع الخفيف لا يخيف، والقمع الشديد يزيد النقمة الشعبية على الأوتوقراطي الشخصاني، وقصة المعارض ألكسي نافالني والتضامن معه معبرة جداً، وكذلك قصة رجال بوتين وهم من زملائه السابقين في المخابرات وكبار الأثرياء وجماعات الجريمة المنظمة.
ليس في قمة جنيف سوى ما في خارجها، فالصفقات الثنائية الواسعة بين الكبار صارت من زمان مضى، والتحديات الداخلية تكبّل القوى العالمية. القدرة على التدخل في شؤون الآخرين صارت أكبر بمقدار ما أصبحت أخطر على صاحبها، والقوى الإقليمية تتكاثر وتبتز الكبار، وقمة جنيف بداية يرسم فيها كل طرف حدود المقبول والمرفوض، بحيث تكون قمة الخطوط الحمر بين رئيسين قويّين ضعيفين.