تعمل القاهرة على مقترحات تفصيلية وقوائم تحفيزية ومتابعة أمنية وحراك دبلوماسي
طارق فهمي كاتب وأكاديمي
تمضي القاهرة في مسار تحقيق التهدئة وتقريب وجهات النظر بين طرفي المعادلة الفلسطينية “فتح” و”حماس” من جانب، وإسرائيل من جانب آخر، خاصة مع التغيير المتوقع في إسرائيل وتشكيل حكومة جديدة لن يكون على رأسها بنيامين نتنياهو. ولهذا جاء تحرك القاهرة العاجل لفرض استراتيجية تثبيت الهدنة، والانتقال إلى مرحلة تالية من العمل المرتبط ليس بمصر كطرف وسيط فحسب، إنما أيضاً بأطراف أخرى تتأهب للعمل على مسار آخر، خاصة أن بعضها له حضور حقيقي في غزة ولديه إمكانات وقدرات تنفيذية، وهو ما قد يكون دافعه للتحرك.
خطوات مهمة
يمكن التأكيد أن مصر تتحرك في الوقت الراهن انطلاقاً مما حققته من خطوات لوقف إطلاق النار والانتقال إلى مرحلة تالية، حيث تعمل على خطة عمل تدريجية وسريعة والانتقال من العام إلى التخصيص عبر مسار أول تجاه السلطة، وثانٍ تجاه “حماس”، وثالث تجاه تل أبيب.
وقد عرضت القاهرة على الرئيس محمود عباس خطة عمل أساسها العودة للحوار الوطني مع حركة “حماس” في القاهرة، ومن ثم سيكون هناك دعوة مباشرة من مصر للطرفين لبدء حوار جديد وتحديد إطار عمل وطني واحد تجاه إسرائيل، وهو ما تم التوافق بشأنه مع تأجيل خطوة إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية لبعض الوقت، على الرغم من مطالبة “حماس” بذلك.
ومن المهم أن ينتهي الحوار الوطني في مصر إلى تأكيد مرجعية واحدة، خاصة أن القاهرة طرحت العودة للعمل وفق مرجعية منظمة التحرير الفلسطينية، بالتالي تدخل “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، ويكون هناك اعتراف غير مباشر وغير رسمي من قبلهما بإسرائيل، التي تعترف بمنظمة التحرير على أنها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.
وتستهدف القاهرة إغلاق الباب أمام أي مناكفات إسرائيلية في شأن التعامل مع “حماس”، ورفض دخول عناصرها الحكومة الفلسطينية الجديدة التي سيشكلها عباس في الفترة المقبلة بتنسيق مصري. ولعل هذا يفسر مشاركة وزراء من السلطة الفلسطينية في لقاء وزير الاستخبارات المصري عباس كامل مع قادة الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة.
مسارات متزامنة
ويمكن القول إن عمل القاهرة سيكون على مسارات عدة، الأول: المضي سريعاً في اتجاه تحقيق إنجازات حقيقية يشعر بها المواطن الفلسطيني مع الانتقال إلى مرحلة الأهداف الكبرى، والتي سيكون نموذجها مشروع إعمار القطاع، مع تحسب القاهرة لما هو آتٍ من محاولات سابقة فشل فيها المشروع نتيجة لممارسات إسرائيلية وفلسطينية من قبل السلطة بما في ذلك مؤتمر إعمار غزة.
وسيكون الطرح المصري تشكيل هيئة دولية للإعمار ستدخلها دول أوروبية وعربية بتنسيق مع كل الأطراف، فقطر لديها لجنة إعمار، وقد أنجزت الكثير من الخطوات وتقوم بدور جيد، كما للإمارات لجنتي المصالحة الوطنية والتكافل الاجتماعي. بالتالي، فإن القاهرة تدرك ما هو قائم في القطاع وستعمل على الخروج عن الثوابت الراهنة إلى مجال أكثر اتساعاً، وهو إدخال الأموال والبدء في الإعمار بعد أن تكون الأمور قد ضبطت وحسم الأمر لصالح خيار الاستقرار، وليس المواجهة. وسيتطلب ذلك الاستمرار في محاصرة سلوك الفصائل غير المنضبطة عبر “حماس”، وإعادة تقديم حوافز للحركة للاستمرار في المسار الراهن، خاصة أن هناك تحفظات لم تخرج للعلن من جناحها العسكري على ما يجري، وتحديداً في موضوع التهدئة والانخراط في هدنة ممتدة، وهو الأمر الذي ستضعه القاهرة في تقديراتها الدورية.
الثاني: إعادة تدوير موضوع صفقة تبادل الأسرى، والذي من المتوقع أن يتم من خلال رؤية شاملة للقاهرة التي ستستضيف وفداً إسرائيلياً الأسبوع المقبل لمناقشة التفاصيل كاملة، سواء الأسماء والشخصيات التي ستتضمنها الصفقة. وليس لدى إسرائيل أي موانع في الإفراج عن بعض القيادات الكبرى مثل مروان البرغوثي، فيحيى السنوار نفسه خرج في صفقة جلعاد شاليط، وبات الآن على رأس “حماس”. وكذلك من المتوقع الإفراج عن أسماء قيادات ميدانية كبيرة في بعض الفصائل الأخرى، فـ”حماس” تريد أن تقول إنها تمثل في الصفقة كل الأسماء من دون تمييز، وهو ما سيكون محل تحفظات من داخل “فتح” وتخوفات من قبل الحكومة الإسرائيلية الانتقالية الآن.
وإلى حين الإعلان عن التفاصيل، فإن ثمة معلومات مؤكدة على الرقم الذي تريده “حماس”، وهو 1111، وفق ما قال السنوار في لقائه وزير الاستخبارات المصري في إشارة لها دلالاتها. وقد تكون هناك مفاوضات غير مباشرة بين الحركة وإسرائيل في القاهرة لإتمام الصفقة، والتي لن تكون قبل شهر على الأقل لحين استتباب الأوضاع في الحكومة الإسرائيلية التي أعلنت خلال الساعات الأخيرة الموافقة على بناء 350 وحدة استيطانية في حي جديد دشن في مستوطنة “بيت إيل” المقامة على أراضي المواطنين شمال شرق مدينة البيرة في الضفة الغربية.
وفي سياق ما يجري، تقدمت مرة أخرى ليئا غولدن، والدة الضابط الأسير في غزة هدار غولدن، بطلب إعادة نجلها لقيادة الجيش الإسرائيلي، وعلى رأسها وزير الدفاع بني غانتس ورئيس الأركان أفيف كوخافي الذي وعدها مراراً وتكراراً بالعمل على إعادته. ووصفت غولدن أن ما يحدث هو عار كبير لأن القيادة السياسية والعسكرية لم تطلع العائلة على تفاصيل المفاوضات مع غزة، مشيرة إلى اجتماعها بوزير الخارجية غابي أشكنازي قبيل سفره إلى مصر، لكنها لم تحصل على معلومات حول تلك الزيارة.
حذر مصري
كما تتحسب القاهرة لما هو قادم من تطورات مفصلية، خاصة أن قطر تريد البدء في حوار بين “حماس” وإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن. والمؤكد أن تجربة طالبان/ أميركا ماثلة، ويمكن أن تتكرر في الدوحة، خصوصاً أن أن قطر استضافت اللقاءات، فهل سيتكرر السيناريو والذي يمكن أن يكون مطروحاً وبقوة في ظل استئناف الاتصالات الأميركية رسمياً مع السلطة الفلسطينية، ووجود قناة أمنية يقودها رئيس الاستخبارات الفلسطينية ماجد فرج تحت إشراف عباس مباشرة. فماذا سيكون موقف مصر؟ وهل تسمح عودة العلاقات المصرية – القطرية بإتمام ذلك؟ كما أن الإمارات لها اتصالاتها، حيث تسعى أيضاً لدخول المضمار الراهن والعمل مع مصر في تنسيق وترتيب خطوات الاتصالات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وهو ما يجري بالفعل خاصة أن هذه المسألة كانت محور اللقاء الأخير بين الشيخ محمد بن زايد والملك عبدالله الثاني، وعبر التنسيق مع إدارة بادين التي ستمنح الجانب الأردني دوراً مركزياً في هذا الإطار لحسابات وتقييمات سياسية واستراتيجية متعددة.
وراء الكواليس
ستسعى القاهرة لتكون مقراً وموقعاً لكل ما سيجري بعد نجاح جولة الوفود المصرية وزيارة وزير الاستخبارات المصري عباس كامل ومخطط العمل مع إسرائيل من زاوية مباشرة. وستكون هناك سلسلة من الاجتماعات السياسية والأمنية بين القاهرة وتل أبيب، وستعمل الأخيرة على استثمارها لفتح الملفات الثنائية التي تجمدت منذ سنوات طويلة. كما يتوقع أن تطلب إسرائيل إبرام اتفاقيات في مجالات غير سياسية، حيث لم يعد للقاهرة تحفظات على تطوير علاقاتها مع تل أبيب مقابل تحقيق مكاسب حقيقية وتنمي الدور المصري ليس في قطاع غزة فحسب، وإنما في كل قضايا المنطقة، وهو ما نقل إلى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في زيارته الأخيرة للقاهرة، إذ إن مصر قادرة على التعامل مع كل الأطراف، في ظل تأكيد تل أبيب على ذلك، شرط الانتقال بمستوى العلاقات إلى مرحلة تالية والعمل على تفكيك عناصر الأزمة مع قطاع غزة وحل مشكلته وفقاً للخطة المصرية – الأميركية. كما أن إسرائيل ستعمل على التماهي مع فكرة السلام الاقتصادي أولاً.
لذا قد يكون التحرك المصري معتمداً على ما يقنع “حماس” بالفعل من خلال رفع الحصار تدريجياً عن القطاع والعمل على فتح المعبر بصورة دائمة. وستشترط القاهرة فتح المعابر على الجانب الآخر، ما سيتطلب العودة إلى اتفاقية المعابر رسمياً، والتي تم طرحها في سياق ما يمكن أن يطرح.
وفي كل الأحوال سيكون القادم هو الأهم، خاصة أن القاهرة تتخوف من دخول أطراف جدد على الخط، وهو ما سيتطلب مراجعة وتقييم ما يحدث. الخطوة المقبلة ليست الشروع في تثبيت الهدنة والبدء باتصالات مباشرة وغير مباشرة مع الجانبين فحسب، وإنما أيضاً العمل مع إسرائيل في ظل مناخ سياسي إقليمي مختلف هذه المرة، وتصميم على إنجاح المشهد، خاصة أن القاهرة ستعيد الأمور لنصابها في السلام مع إسرائيل، وهو ما قد يقرب مساحات التلاقي في الفترة المقبلة، في ظل استمرار الولايات المتحدة في مراقبة ما يجري وعملها على إنجاح الوسيط المصري والدفع بالطرف الأردني إلى جواره في وقت لاحق إذا بدأ المسار التفاوضي الحقيقي بين الأطراف الفلسطينية والإسرائيلية والعربية.
إن نجاح ذلك يحتاج إلى جهد وخبرات متراكمة والتوقع بحدوث خروقات من كل طرف، لكن تصميم الجانب المصري ومنحه قوائم تحفيزية لكل الأطراف هو المهم والمعبر عما سيجري بالفعل، وسيحقق مزاياً ومكاسب لكل طرف، خاصة أن “حماس” ستتحول تدريجياً إلى حزب سياسي عينه على السلطة، على أن يبقى الجناح العسكري في موقعه مدافعاً عن خيار المقاومة، من دون أن تتنازل عن أي خيار آخر مطروح في المدى المنظور.
ماذا بعد؟
ستظل عين القاهرة على ما يجري خلال الأيام المقبلة، وقبل الاجتماعات التي ستكون مكانها بين الوفود الفلسطينية والإسرائيلية، وسيكون من المهم التحسب من تغير المعادلة السياسية الإسرائيلية مع صعود حكومة جديدة، مما قد يعرقل بعض الأمور ويقف أمام إنجازات سريعة يمكن أن تتم. وإذا كان المستوى العسكري هو ما يحكم، فلا توجد مشكلة أصلاً في هذا الإطار، وسيكمل العسكريون مسارات ما سيتحقق وإن كانت حالة عدم الاستقرار ستكون واردة بطبيعة الأمر، خاصة أن القاهرة تربطها بالمستوى العسكري علاقات وثيقة، ولا يوجد تخوف مما هو قادم على الرغم من أن نتنياهو تحدث أخيراً عن مخاطر يتوقع أن تواجهها إسرائيل، وربط بين تهديد نووي إيراني والعلاقات مع إدارة بايدن، وحذر من عضوية عضوي الكنيست عن حزب “ميرتس”، نيتسان هوروفيتس وتمار زاندبرغ، في المجلس الوزاري المصغر للشؤون السياسية والأمنية (الكابينيت).
وما زالت القاهرة تتحسب لما يجري في الضفة، حيث السلطة الفلسطينية تتحسب خطواتها، على أن يزور وفدها القاهرة خلال الأيام المقبلة. ومن الواضح أن مصر تنسق مع عباس وفكرة عقد مؤتمر دولي للسلام قائمة، لكن الإشكالية الرئيسة مرتبطة بالأساس بالبديل المطروح، أي تجديد الرباعية الدولية، وهو خيار لا تزال الإدارة الأميركية تدرس تبعاته إن تم.
ومن المؤكد أن الإدارة الأميركية ستدخل على خط دعم مصر والأردن في مسار الحركة المقبلة، ولكن سيكون هناك دور لبعض الدول العربية مع إلحاق المؤسسات الأوروبية في سياق ما يجري، ولكن ستبقى الشكوك الإسرائيلية قائمة، وستستمر في المطالبة بمزيد من الضمانات المصرية والأميركية.