الجائحات من مسؤولية رؤساء البلاد، ليس بعد أن تسدد ضرباتها فحسب بل قبل ذلك
ديفيد ميليباند راجيف جاي شاه
ثمة عدد من الدروس المستفادة من جائحة “كوفيد- 19”. ومن بين أهم تلك الدروس أن العالم يسعى إلى المتاعب حين لا تلقى التحذيرات والمقترحات في شأن الإصلاحات الخاصة بالمسائل العالمية الكبرى، آذاناً صاغية.
وفي حالة التأهب لمواجهة الجائحات والاستجابة لها، قدمت 11 لجنة مختلفة في السنوات الـ20 الماضية مقترحات عن ذلك. وجرى تجاهل غالبية التوصيات. والآن يدفع العالم الثمن، في ظل العبء الأكبر الذي يتحمله أفقر فقراء العالم. فبالنسبة إلى أناس كثيرين، لا توجد نهاية في الأفق.
لقد عمل أحدنا (راجيف شاه) في “لجنة كيكويتي” عام 2016 (التي ترأسها رئيس تنزانيا السابق جاكايا كيكويتي) بعد تفشي وباء “إيبولا”. وأوصت اللجنة، من ضمن جملة أمور، بإنشاء مجلس رفيع المستوى “يتولى رصد المسائل السياسية وغير الصحية، المتصلة بضرورات الوقاية والتأهب لمواجهة جائحة محتملة ذات أبعاد عالمية. وسيعيد المجلس التأكيد على التوجيه في أوقات الأزمات الصحية، وسيتدخل في المجالات المتضررة خارج مجال الصحة”. وكان من المفترض أن يُعقَد المجلس على مستوى رؤساء الحكومات.
لكن، الاقتراح دُفِن بهدوء. وبدلاً من ذلك، أُنشِئ مجلس عالمي لرصد الاستعداد والتأهب. وأنجز عملاً مهماً. ففي 2019، حَذَّر تقريره السنوي الذي حمل عنوان “عالم معرض إلى خطر” من أن “العالم ليس مستعداً لمسبب لمرض تنفسي سريع الحركة وخبيث”. والواقع أن البحوث والتحليلات التي أجراها المجلس جاءت صارمة بقدر ما كانت الاستنتاجات التي توصل إليها نافذة البصيرة. لكن، في غياب النفوذ السياسي والموارد، ذهبت توصياته أدراج الرياح.
لقد أظهرت أزمة “كوفيد- 19” مراراً وتكراراً، ما يحدث عندما لا تكون القيادة السياسية العالمية متاحة في دعم القيادة العلمية والصحية العالمية. في يناير (كانون الثاني) 2020، عملت آلية “منظمة الصحة العالمية” على إعلان حالة الطوارئ الشاملة في مجال الصحة العامة ببطء. ولم تجتمع لجنة الطوارئ إلا في 22 يناير 2020. لكن حتى عندما أُعلِن في 31 يناير أخيراً عن “حالة طوارئ صحية عامة ذات أهمية دولية”، لم يحصل رد الفعل المطلوب. واستمرت المؤتمرات. واستمر السفر. ولم يجر الإلزام بارتداء الكمامات، إلا نادراً.
والسبب بسيط. يُعامَل منع الجائحات والاستجابة لها كمسألة صحية. وتتألف “منظمة الصحة العالمية” وهيئة المساءلة التابعة لها، أي “جمعية الصحة العالمية”، من خبراء في الصحة. ويقود العمل وزراء صحة. لكن الجائحات تختلف عن غيرها من المسائل الصحية. إذ تنتمي المسؤولية عن الجائحة إلى مكاتب الرؤساء ورؤساء الوزراء ووزراء المالية. ويجب أن يحدث ذلك ليس بعد أن تضرب الجائحة، بل قبل ذلك أيضاً، لأن الجائحات تُخلّف عواقب تتجاوز الصحة، وفق ما تعلمنا (من جائحة كورونا) على حسابنا.
وبالتالي، تشكّل تلك المعطيات سياق الاقتراح المقدّم من اللجنة المستقلة المعنية بالتأهب في مواجهة الجائحة والاستجابة لها (ديفيد ميليباند عضو فيه) بإنشاء مجلس للتهديدات الصحية العالمية. وتوصي اللجنة بمهمات واضحة للمجلس تشمل الحفاظ على الالتزام السياسي بالتأهب لمواجهة الجائحات والاستجابة لها، وضمان أقصى قدر من التنسيق الدولي (في مواجهتها)، ورصد التقدم المحرز نحو تحقيق أهداف واضحة للتأهب والاستجابة للجائحات، وتوجيه موارد إضافية تكون مخصصة لضمان التأهب والاستجابة الفاعلين، ومساءلة البلدان والهيئات الدولية عن التقدم المحرز. ومن شأن المجلس أن يوفر دعماً سياسياً رفيع المستوى لـ”منظمة الصحة العالمية”، فتصبح أقوى وأكثر استقلالاً وأفضل تمويلاً.
ومن أجل تحقيق الشمولية والفاعلية، توصي اللجنة بأن يتشارك رئاسة مجلس التهديدات الصحية العالمية ممثلان عند مستوى رؤساء الحكومات تختارهما الجمعية العامة للأمم المتحدة، وممثل عند مستوى رؤساء الحكومات أيضاً لبلدان “مجموعة العشرين” التي تمثل أكثر من 80 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
وسيعمل الرؤساء المشاركون لولايات من ثلاث سنوات. وتقترح اللجنة ألا يضم المجلس أكثر من 20 عضواً، بهدف تمكين عملية اتخاذ القرار على نحو سريع، ودعوة ممثلي القطاع الخاص والمجتمع المدني العالميين إلى الانضمام. وتقترح اللجنة أيضاً أن يشرف المجلس على تخصيص موارد مالية كبيرة من خلال مرفق جديد يربط الدعم البعيد الأجل والموثوق به للتأهب من جهة، مع الزيادة السريعة للتمويل المخصص لغرض الاستجابة المبكرة، من الجهة الثانية. ويمنح الإشراف على هذا المرفق المجلس النفوذ والموارد اللازمة التي من شأنها أن تضمن معالجة الثغرات في النظام. وتتركز هذه البنية على الدور الذي تؤديه الدول الأعضاء، فتدرك أهمية القيادة الوطنية في إدارة التهديدات الصحية داخل الحدود، إضافة إلى الحاجة للتنسيق عبر الحدود.
ولنتخيل معاً لو أن هذا المجلس قد وُجِدَ منذ اقترحت “لجنة كيكويتي” إنشاء هيئة مماثلة في 2016. في تلك الحال، ستجد البلدان التي لا تستثمر بالقدر الكافي في الاستعداد للجائحة قبل وقوعها، ستجد نفسها في مواجهة ضغوط سياسية. وعندما مُزِّقت خطط الاستجابة للجائحة، على غرار ما فعلت إدارة ترمب حينما جاءت إلى السلطة، كان الأمر سيؤدي إلى مواجهة التقريع.
واستطراداً، يتمثّل الأمر الأكثر أهمية في أن المدير العام لـ”منظمة الصحة العالمية”، حينما أعلن حالة طوارئ في مجال الصحة العامة في 31 يناير 2020، كان من الممكن أن يحصل على جمهور جاهز من القادة السياسيين المستعدين لإيصال رسالة على المستوى الدولي مفادها بأن العمل كالمعتاد يجب وقفه، والمطلوب هو زيادة تمويل معدات الحماية الشخصية والتشخيص. بالتالي، لم يكن لـ”كوفيد- 19″ أن يُصنَّف “مسألة صحية” بل حالة طوارئ عالمية.
لا نستطيع إحياء الناس الذين خسرناهم بسبب “كوفيد- 19” أو استرداد تريليونات الدولارات من الخسائر الاقتصادية. وكذلك فإن الأزمة أبعد ما تكون عن النهاية. إذ يبقى عدد من أجزاء العالم قيد المعاناة، أكثر من أي وقت مضى، وربما سيبقى الفيروس بيننا، بوصفه جائحة تصبح مستوطنة كضرب من ضروب عدم المساواة، مع عرقلة طرح اللقاحات يسببها انعدام الثقة. في المقابل، بوسعنا أن نتعلم الدروس الصحيحة.
تذكيراً، لقد جرى توقّع كابوس “كوفيد- 19″، ما يجعل الأمر أشد بؤساً مما لو أنه جاء على نحو مفاجئ. ومع انعقاد “جمعية الصحة العالمية”، باتت الدعوة إلى إنشاء مجلس عالي المستوى أكثر إلحاحاً لأنها صدرت قبل خمس سنوات. وسنشهد دوماً حالات تفشٍ لأمراض وبائية. في المقابل، يتعين على النظام الدولي أن يضمن احتواء تلك الحالات، إن لم يكن على المستوى الوطني فعلى المستوى الإقليمي. وهذا أمر ممكن، لكن ذلك لن يتسنى لنا إلا عِبْرَ تغيير أساليبنا.
* ديفيد ميليباند هو الرئيس والرئيس التنفيذي لـ”لجنة الإنقاذ الدولية”. وبين عامي 2007 و2010، شغل منصب وزير خارجية المملكة المتحدة
** الدكتور راجيف جاي شاه هو رئيس “مؤسسة روكفلر” العالمية التي تهتم بتعزيز رفاه الإنسانية في مختلف أنحاء العالم. وبين عامي 2010 و2015، عمل مسؤولاً في “وكالة التنمية الدولية الأميركية”، وقاد استجابة الولايات المتحدة حيال زلزال هايتي ووباء فيروس “إيبولا” في غرب أفريقيا
© The Independent