كورونا الأرقام


جعلت الجائحة من هذه الحالة رمزاً للكذب والفوضى

أحمد الفيتوري كاتب 

الأرقام لعبة بشرية، ومنذ البدء كان للأرقام سحرها، فهناك في تاريخ الأرقام أرقام ميتافيزيقية، مثلما الرقمين سبعة وثلاثة. وإذا ما جُلنا في تاريخ الأرقام سنجد شغفاً بشرياً بها وكذا قصصاً وأساطير، لكن هذا لم يمنع أن الأرقام ارتبطت في الذهن البشري بالعلم والعقل، فالرقم معادل لليقين والحق، فإذا ما قلنا واحد زائد واحد يساوي اثنين، فإنه القول الفصل، وإذا ما كان الرقم الفصل فإذاً لا فصال ولا خصام.

الغريب أن هذا الفاصل القاطع يتحول في لحظة ما إلى العكس، فكثيراً ما كانت الأرقام تقديرية وتخمينية، وفي أحيان لتمويه الحق ولإخفاء حقيقة ما، لكن الطريف في لعبة الأرقام أنها في أحايين تكشف عن الكسل الذهني، ففي المحيط الذي أعيش فيه، إذا ما سألت أحدهم عن المسافة بين مكة والمدينة مثلاً يجيبك بسهولة أنها بين 200 و800 كيلومتر، ولا يهم صحة المسافة، لكن المهم التقدير الذي يتجاوز المعقول. وإن سألته في نهار يوم ما، كم الساعة الآن؟ وليست لديه ساعة طبعاً، فإنه يجيبك أنها بين الثانية والخامسة، وهكذا يضرب بالحائط كل فارق.

الرقم عندنا لعبة، أو هوية للعلاقة بالزمان والمكان، وهذه العلاقة المشوّشة وغير الثابتة عند الكثير منا، التي أيضاً تكشف عن تغلغل اللاعقلانية في تفكيرنا، وعن الاستخفاف وعدم الجدية في ممارستنا للحياة، ومن هذا يجيء هدر الوقت والجهد والمال، وفي هذا يكون مفهوم الزمن متماثلاً أو متقارباً، في المجتمعات غير المتطورة، والمجتمعات الاستهلاكية، فما يجمع المجتمعين أن الرقم رمز تجريدي لهدر مجسد.

وإن كان الرقم لعبة أو سحراً عند كثيرين، فإنه عند كثير من السُلط أداة حاسمة للتزوير، فالرقم واحد يتحول إلى عشرة، بمجرد أن تبزق ذبابة أمامه، بمجرد إرادة الدولة وحاجتها يقل أو ينقص الرقم. ففي زمن “كورونا” يجري إنقاص الأرقام لإخفاء عدد المصابين بالجائحة وعدد الأموات، فيما يتم زيادة في الحال الاقتصادي للبلد على الرغم من الجائحة. علم الإحصاء في هذا الحال يكون أداة لإخفاء الحقائق بالتلاعب بالأرقام، ومن يتابع هذه الأيام النشرات الصحية يصاب بذهول، ففي الأغلب ما يصدر من أرقام إمّا مزور بإرادة دولة ما، أو أنها أرقام تخمينية ومتضاربة نتيجة الفوضى التي أصابت المجال الصحي.

لقد كثفت كورونا الحال الرقمية فجعلت من الأرقام رمزاً للكذب والفوضى، وبين لحظة وضحاها، تحولت اللعبة الرقمية إلى كشّاف بفضل الجائحة، في الجانب المزيف كما في الحقيقي، لأن لعبة الأرقام في المجتمعات الحديثة قديمة من ناحية، ومن أخرى أن الدول اللاديمقراطية بالضرورة تزوّر أرقامها. إذاً كورونا الأرقام كشّاف قوي للتزوير، ما زاد مع الجائحة، كما هو كشّاف للفوضى، ما بانت جلية في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، إذ ليس الإحصاء دالاً على الصحة، حتى وإن أبرزت الأرقام تفوقاً.

لغة الأرقام، كما تجلى في زمن “كورونا”، لغة مموهة وبعيدة من الحقائق، في المجتمع البشري كافة، خصوصاً في دول العسف والمجتمعات غير المتطورة. ولغة الأرقام بكماء لا تفصح، هي قد تؤشر لكن ينقصها كثير، كما بينت الوقائع وبعض من النظريات البشرية. ومن هذا فالشكوك لا تمس الصين مثلاً في ما يخص مصدر كورونا، بل في ما صدر منها من إحصاءات تخص مصابها من الجائحة، وهذا مؤشر إلى أن الأرقام لا تصدق، في مجتمعات قادرة قوة ما فيها على إخفاء الحقيقة. وإذا كانت الأرقام كاذبة فلا يمكن التحقق مما حدث، ولا يمكن توقع ما سيحدث.

كورونا كارثة لكنها ككل كارثة كاشفة. وأن يحدث تزوير أكثر زمن الجائحة فهذا يضاعف الكارثة. نعم ليست الأرقام أصدق أنباء في كل حال، لكن أن يجري التلاعب فيها في حال كورونا، فهذا لا يعقد مسألة الجائحة وحسب، بل مما يعني أن البشرية بهكذا فعل تعمّق كوارثها، من ثقب الأوزون إلى الشعبوية وغيرها كثير، أما في دول الفقر الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، فما تفعله دولها بهكذا تزوير هو مزيد من إفقارها.

المشكلة أن معرفة المشكلة ليس حلاً، وأن الأماني الطيبة لا تأتي بما تشتهي السفن. وأن “كورونا” قادر على القتل لا على الحياة، وأن “كورونا” قتل منا أكثر من الأرقام التي نعرف، بحسب ما جاء في تصريحات منظمة الصحة العالمية المتضاربة، وأن ما ينتج من الجوائح، لا تظهر ولا تفصح عن نفسها ساعتها، بل في العاقبة وما أدراك ما العاقبة. فالرجاء أن تكون العاقبة في المسرات.