حرب وهدنة كبديل للانتخابات


المواجهة خلقت فرصاً… وعمقت الانقسام القيادي الفلسطيني

طوني فرنسيس إعلامي وكاتب ومحلل سياسي لبناني

و سارت الأمور كما كان مخططاً لها، لكنا شهدنا يوم 22 أيار (مايو) الجاري مجلساً تشريعياً فلسطينياً جديداً يختار حكومة موحدة تدير الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة، وتمهد لإجراء انتخابات رئاسية تسفر عن اختيار خلف لرئيس السلطة الوطنية محمود عباس.

كان يفترض بهذه الانتخابات أن تعيد توحيد القوى الفلسطينية بعد انقسام متصاعد منذ سيطرة “حماس” على القطاع، وأن تبلور رؤية جديدة لكيفية متابعة النضال من أجل الدولة المستقلة استناداً إلى وحدة داخلية فلسطينية مستعادة ومؤسسات حكم منبثقة عنها، لكن ما حصل ذهب بالأمور في اتجاهات أخرى.

أدى عدم السماح الإسرائيلي لفلسطينيي القدس بالاشتراك في الانتخابات إلى قرار السلطة الوطنية بتأجيلها، وأسفر تصاعد القمع ضد مواطني الشيخ جراح وباب العمود وزوار الأقصى عن اندلاع احتجاجات واسعة في أنحاء الضفة وفلسطين عموماً، وقادت هجمات الصواريخ التي شنتها “حماس” وفصائل أخرى من القطاع، رداً على الحصار وتضامناً مع عرب القدس، إلى حرب الأيام الـ 11 التي ستتوقف في مصادفة غريبة في اليوم الذي كان مقرراً إن تجري فيه الانتخابات الفلسطينية الملغاة.

لم تجر انتخابات فلسطينية وإنما حرب فلسطينية – إسرائيلية، طرفاها بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة المستقيلة و”حماس” التي كانت تعد العدة لوراثة القيادة الفلسطينية الرسمية. بمعنى ما، كانت الحرب بديلاً للانتخابات في المعسكرين، في إسرائيل حيث يبحث نتنياهو عن مصادر قوة تعزز محاولاته الاستمرار على رأس الحكومة قبل اللجوء إلى انتخابات جديدة، وفي غزة حيث تريد “حماس” تأكيد قيادتها للفلسطينيين، ووريثاً لأبو مازن و”فتح” بصفتها “المقاومة المسلحة”، بانتخابات أو من دونها.

هكذا اعتبر طرفا “الحرب” أنه خرج منها منتصراً. “حماس” قالت في احتفالات بغزة إنها حققت “النصر” على إسرائيل، وأكد رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية من الدوحة أن تنظيمه وبقية الفصائل وجهوا “ضربة قاسية ستترك آثارها المؤلمة على إسرائيل ومستقبلها”، وأنها “أسقطت صفقة القرن ومشاريع التوطين والتطبيع مع الاحتلال، وثقافة الهزيمة والتعايش مع الاحتلال”.

يُفهم من هذا الكلام أن ما أسقطته “حماس” هو سلطة رام الله، فهي المقصودة بممارسة “التعايش مع الاحتلال”، والواقع أن هذا ما تريد الحركة قوله بعد حربها الرابعة مع إسرائيل، بل في كل حروبها السابقة.

بدوره اعتبر نتنياهو أنه حقق نصراً مبيناً. قال بعد إعلان وقف النار، إن العملية في غزة توجت بـ “نجاح منقطع النظير”، بتوجيهها “ضربة قوية إلى حماس”، وتابع أن هذه الأخيرة “جلبت لنفسها دماراً كبيراً، أعادهم (الفلسطينيون) سنوات طويلة إلى الوراء”.

في المجال العسكري يمكن للطرفين أن يقيسا معنى الانتصار بمكاييل ملائمة لكل منهما، إلا أن المشهد أوسع من ذلك، فإسرائيل ذاقت معنى الصواريخ، والأخطر اهتزاز جبهتها الداخلية بين العرب واليهود، وغزة في المقابل تلقت ضربات تدميرية قاتلة، ولم تسفر وحدة الجماهير الفلسطينية عن تغيير في العقلية القيادية، إلا أن الانقسام بين قيادتي الضفة وغزة استمر وازداد حدة، وكان مهيناً أن يستمر التواصل، ولو الهاتفي، مقطوعاً بين قيادتي “حماس” و “السلطة”، مما يعكس حجم الافتراق بين آمال وتضحيات الجمهور الفلسطيني، وبين حسابات قياداته الضيقة.

لقد أعادت وحدة الشعب الفلسطيني على امتداد أرضه التاريخية القضية الفلسطينية إلى وهجها وأولويتها، وفرضت على الإدارة الأميركية أن تعيد النظر في أولويات سياستها الخارجية.

كانت فلسطين مغيبة لكنها عادت بقوة، واضطر الرئيس جو بايدن إلى تخصيص وقت طويل لمتابعة ما يجري، وكرر التزامات بلاده تجاه حل الدولتين، واكتشف مجدداً الدور المصري، هو الذي لم يجر اتصالاً بالرئيس السيسي منذ انتخابه، فاضطر بسبب فلسطين للاتصال به، والثناء على دور بلاده في إنجاز الهدنة.

وتحركت روسيا أيضاً طارحة مبادرتين، الأولى تقترح اجتماعاً فلسطينياً – إسرائيلياً في موسكو، والثانية تحض على استئناف عمل اللجنة الرباعية الدولية التي تضمها إلى جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة.

وتمسّك الاتحاد الأوروبي بحل الدولتين، ورفض أي تغيير في وضعية القدس، متكاملاً مع الموقف العربي الثابت الذي عبرت عنه السعودية، متمسكة بحل يقوم على أساس المبادرة العربية وضمان حقوق الشعب الفلسطيني.

هذا الانخراط الدولي شديد الأهمية بعد الحرب المدمرة، وهو ما يفترض أن تتلقفه القيادات الفلسطينية بحرص شديد، وتبني عليه أسس تعاملها مع مرحلة جديدة من النضال من أجل الحقوق، ولا يجب بأي حال أن تكون حرب غزة واحدة من ” الحروب الأبدية ” التي تتكرر للأسباب نفسها، فتأتي بالنتائج نفسها، بل يفترض أن تتحول الهدنة القائمة إلى فرصة لترجمة الوحدة الشعبية الفلسطينية لهياكل قيادية، تتولى موحدة اتخاذ القرارات المصيرية المنتظرة، مستفيدة من التعاطف الدولي والقناعة العامة بضرورة حل الدولتين.

على كل حال، كشفت المواجهة المباريات القائمة بين قيادتي تركيا وإيران على انتزاع مركز البطولة في التضامن الدولي مع فلسطين. زاد الرئيس أردوغان وتيرة خطاباته المتعاطفة، فيما كان حجم ميزانه التجاري مع إسرائيل يحلق فوق الـ 6 مليارات دولار سنوياً، أما إيران التي استفاقت على الدعم الدبلوماسي، فكان اقتراحها شديد الديمقراطية بعد التهديدات التاريخية بإزالة الدولة العبرية في دقائق. هذه المرة اقترحت، كإسهام مميز، إجراء استفتاء شامل لسكان فلسطين حول المصير الذي يرتؤونه!