تسير عكس تزايد التنوع العرقي والتوجه العلماني في عدد من البلدان المتطورة
ماري ديجيفسكي كاتبة @IndyVoices
للمرة الأولى بعد أسبوعين من القصف، هناك وقف لإطلاق النار بين إسرائيل وفلسطينيي غزة. وأسهمت وساطة مصر في التوصل إلى اتفاق، فيما قدمت الولايات المتحدة تشجيعاً صامتاً من بُعد. وعلى الرغم من أن وقف إطلاق النار سيوقف وقوع ضحايا إضافيين إلى حين، فلن يغير أو يجد حلاً لأي شيء. إذ إن النزاع على الأراضي واختلال القوى الهائل يضمنان عدم إحلال أي سلام دائم، ولا استقرار بالطبع، بحسب الشروط الحالية.
وكالعادة، تكبد الفلسطينيون جراء هذا الصراع نسبة غير متكافئة من الخسائر البشرية والمادية، مع مقتل أكثر من 200 شخص بالمقارنة مع 12 إسرائيلياً، وإصابة عدد أكبر بكثير من الأشخاص وتدمير قسم أكبر بكثير من البنية التحتية. في المقابل، شكلت إسرائيل مرة أخرى الجهة الخاسرة معنوياً جراء الأسبوعين الماضيين.
وفي الوقت الذي تصدرت عناوين الأخبار العالمية باعتبارها قائداً عالمياً في مكافحة الجائحة الفيروسية، وسعت إلى الترويج لنفسها باعتبارها وجهة لقضاء العطلات على الشاطئ كغيرها من الأماكن، إلا أنها تعود الآن إلى المربع الأول. إن صورة إسرائيل تمثل المُعتدي، المتنمر وقاتل النساء والأطفال.
وفي هذه المرحلة، (مهما كان موقفك من النقاش القديم، لا بد أن تسأل نفسك)، لماذا تفعل إسرائيل هذا بنفسها، أحقاً ما من سبيل آخر؟ علي أن أشير، مع كثير من التردد، إلى أنني غير متأكدة من وجود سبيل آخر في ظل الظروف الحالية، أو أقله لا سبيل آخر يمكن إقناع إسرائيل باعتماده.
وفي ذلك الصدد، قد يحاجج إسرائيليون كثيرون على أن سبب تصدر تلك الصور يعبر عن انحياز الإعلام، بمعنى أن صور المعاناة تخلف تأثيراً أكبر من صور المقاومة، وقد ضاعت مسألة “البادئ”، فهل بدأ الموضوع مع تهديد بالطرد من المنازل في قسم عربي تاريخياً من القدس، أو من الاستفزازات المزعومة داخل المسجد الأقصى وحوله؟ هل كان الموضوع سيهدأ لو لم يطلق المقاتلون في غزة الواقعة تحت سيطرة “حماس” بعضاً من مخزون صواريخهم، بما في ذلك باتجاه مطار تل أبيب؟ ماذا على إسرائيل أن تفعل الآن؟
هل شكل قرار إسرائيل الظاهري بتدمير شبكة الأنفاق تحت غزة وحولها، خطوة انتهازية لا تتناسب مع الخطر الذي تمثله “حماس”؟ ربما الجواب “نعم” مدوية، إن كان المجيب فلسطينياً أو يصف نفسه بالمراقب الموضوعي، و”كلا” وفق كثير من الإسرائيليين.
خلال زياراتي لإسرائيل على مدى 40 عاماً تقريباً، تغير كثير للأفضل إجمالاً، ولكن بقي كثير من الأشياء على حاله. إذ تحسنت مستويات المعيشة بشكل لا يُقاس. وتبدلت البنية التحتية كلياً. إذ تتمتع المدن الإسرائيلية بوسائل نقل حديثة ومرافق صرف صحي حديثة، وفيها طرقات ممتازة ومساكن جيدة وخدمات صحية واجتماعية جيدة. وكذلك تشتمل تلك المُدن فيها أعلى مستويات التكنولوجيا وجامعات عالمية المستوى، وكثيراً من رواد الأعمال المحليين. وقد جعلت الصحراء تزدهر، حتى أنها وصلت إلى درجة تصدير الـ”أفوكادو”. وما عُدت مضطراً كزائر إلى أن تختار بين متطلبات السكن الصعبة داخل مجتمع زراعي تعاوني أو “كيبوتز” ما زال متجذراً في خمسينيات القرن الماضي، أو أحد الفنادق الدولية المحافظة. ففي إسرائيل منتجعات ومراكز تسوق ممتازة.
وبعدها، تصل أنت الزائر إلى مدخل المركز التجاري المذكور، ويقابلك حارس أمن مسلح وبوابة أشعة سينية شبيهة بتلك الموجودة في المطارات، وتتذكر أنك في أحد أشد دول العالم في الحماية الأمنية، وأنها تشدد على الناحية الأمنية لسبب ما. فقد خشيت إسرائيل على وجودها منذ لحظة تأسيسها باعتبارها دولة حديثة في 1948. وآنذاك، وكذلك شكل الناجون من المحرقة اليهودية أو الحروب أو الاضطهاد في شمال أفريقيا، جزءاً من المستوطنين الأوائل في الدولة، ويستحق أولادهم الجزء الأكبر من الفضل على الديمقراطية والازدهار اللذين تتمتع بهما إسرائيل اليوم.
في المقابل، كلما ازدادت مظاهر وتجهيزات الدولة الحديثة في إسرائيل، يتزايد التنافر على ما يبدو مع الطبقات العديدة لأصلها كدولة يهودية، محاطة بأعداء محتملين. من وجهة النظر الحالية، تبدو عقلية الحصار الإسرائيلية، التي كانت مبررة كلياً قبل انتصارها في حرب 1967، صعبة التبرير. ولا شك أن قوتها العسكرية الحديثة، بما فيها قدرات نووية مفترضة وغير مُعلنة، تجعلها عصية على الهزيمة. في المقابل، إن الضرورات الأمنية (بما فيها الخدمة العسكرية الإلزامية للرجال والنساء، والنسبة الكبيرة من جنود الاحتياط، وتمارين الدفاع المدني المنتظمة) تتداخل مع كل شيء. وبالمناسبة، شكل هذا التنظيم الفاعل أحد أسباب نجاح التلقيح.
في صورة واسعة، هنالك تنافر بين إسرائيل وجيرانها، نعم. إن سوريا في حالة حرب منذ 10 سنوات. ولبنان ينتقل من أزمة لأخرى. وقد توقف نمو الأردن ومصر منذ “الربيع العربي”، وبينما تطورت الحياة في رام الله، العاصمة الفلسطينية، بشكل كبير على امتداد الفترة نفسها، أصبح القسم الأكبر من إسرائيل يُعد دولة من دول العالم المتقدم بشكل واضح، بحيث لا يمكن تفريقها عن عدد من دول أوروبا.
في المقابل، ثمة تنافر موجود داخل إسرائيل نفسها. ويبدو حسياً بشكل جزئي، على غرار الفارق بين مستويات المعيشة في المناطق ذات الأغلبية اليهودية مقابل المناطق ذات الأغلبية العربية. وفيما شكلت القدس الشرقية في وقت من الأوقات جزءاً من باقي المدينة، ما عادت الآن كذلك. إذ يشبه المرور بها أشبه بالعبور من أوروبا إلى الشرق الأوسط. وكذلك هنالك ضغوطات ثقافية وديمغرافية، تهدد بتمزيق النسيج المشترك.
ويشكل اليهود المتطرفون مجتمعاً أكبر وأكثر انفصالاً من أوقات سابقة، وهم معفيون من تجربة بناء الأمة التي تمثلها الخدمة العسكرية، وتلك نقطة خلافية. وما يعنيه ارتفاع معدلات الولادة لديهم، وكذلك لدى العرب الإسرائيليين، هو أن الأغلبية اليهودية السائدة سوف تتقلص نسبياً.
وفي ذلك السياق، لا يقتصر ما تخشاه تلك الأغلبية على تراجع نفوذها فحسب، بل تبدد السرديات التي بُنيت عليها دولة إسرائيل، ومنها تجربة المحرقة اليهودية، فيما يفارق آخر الناجين منها الحياة، آخذين معهم شهاداتهم الحية. وقد قدم العنف الذي اندلع في اللد ومناطق أخرى يقطنها مزيج من السكان اليهود والعرب في أعقاب أعمال العنف الأخيرة في القدس والصواريخ من غزة، مؤشراً مقلقاً عن المستقبل.
ومن أحد الجوانب، تتمتع إسرائيل اليوم باستقرار أكثر من أي وقت مضى، بفضل دفاعاتها الحديثة واستعداداتها كدولة. في المقابل، ما زالت عقلية الحصار فيها على حالها بطرق عدة، تماماً كفكرة إسرائيل باعتبارها الملجأ الآمن الوحيد ربما ليهود العالم كافة ، وهي وجهة نظر تعززها عودة ظهور معاداة السامية في أوروبا.
وطالما دام هذا الحس من انعدام الأمان، ستُعطى الأولوية للرد على الهجمات الصادرة من غزة بقوة مدمرة أولوية، على حساب السعي إلى الحصول على قبول دولي. إذ تسود في إسرائيل وجهة نظر مفادها أنه لن يكون من بديل لذلك. في المقابل، لا تقف الصعوبات عند هذا الحد. وكلما شعرت إسرائيل بالحصار، سواء من الداخل أو الخارج، يرجح أن يزيد دفاعها عن أمنها وهويتها اليهودية، ما سيجعلها تسبح، كما في الغالب، عكس التيار الدولي.
فيما يزيد الخليط العرقي والاتجاه العلماني في عدد من البلدان المتطورة، يبدو أن إسرائيل تحاول أن تكون الاستثناء. وهذا لن يجعل مسار الحياة أحسن، سواء بالنسبة إليها، أو للمنطقة أو لأصدقائها في الخارج الذين باتت أعدادهم في تناقص.
© The Independent