أكثر من 500 قرية فلسطينية تقاوم الاندثار و”الأسرلة”

علي سعادة

الرقم مرعب ويكشف حجم ومستوى الجريمة التي وقع تحت وطأتها الفلسطينيون على مدى 73 عاما، هي عمر النكبة.


فقد امتدت وانتشرت بقع الدماء على مساحة أرض فلسطين الطبيعية والتاريخية، ولم ينج منها حجر أو شجر أو زقاق أو نبع ماء.


وربما لم تستثن مدينة أو قرية أو منطقة جغرافية من الاعتداء المباشر أو غير المباشر، من قبل العصابات الصهيونية التي دخلت القرية وهي مدججة بالأسلحة في مواجهة بنادق قليلة لا تصلح للقتال، ورصاص وذخيرة بالكاد تكفي لقتل عصفور، بعد أن انسحبت الجيوش العربية من المدن الرئيسية في فلسطين.


كان للعامل النفسي وللجرائم الصهيونية الدور الأكبر في تفريغ القرى من السكان، بعد لعب ترويج تفاصيل الجرائم التي ارتكبتها العصابات الصهيونية “الهجاناه”، “ليحي”، “أرغون” وغيرهم، على بعض القرى الفلسطينية، دورا مفصليا وحاسما في هروب الكثير من أهالي القرى المعزولة باتجاه المدن والمغر والمناطق الأكثر أمنا.


ولم يأت يوم 15 أيار/ مايو عام 1948 إلا وكانت آلة الإرهاب الصهيوني قد أجهزت على أكثر من 530 قرية فلسطينية وارتكبت نحو 150 مجزرة، ذهب ضحيتها نحو 13 ألف فلسطيني، وهُجِّر أكثر من 750 ألف من بيوتهم ليصبحوا لاجئين في رحلة الشتات التي لم تتوقف. واليوم، تبلغ أعداد اللاجئين الفلسطينيين وأحفادهم قرابة 7 ملايين فلسطيني، يعيش كثير منهم في مخيمات اللجوء في الدول العربية المجاورة، وينتظرون عودتهم لوطنهم.


ومنذ اللحظة الأولى، بدأ الاحتلال في إحداث تغيير ديموغرافي (سكاني)؛ حيث رحل سكان القرى والمدن من أماكن سكنهم، فأُفرغت مئات القرى والبلدات الفلسطينية من سكانها، وأقيمت مدن وبلدات جديدة بأسماء عبرية مكانها أو على مقربة منها.


وقامت سلطات الاحتلال بتغيير الخريطة الحضرية والجغرافية لفلسطين، حيث استبدلت آلاف الأسماء العربية للقرى والبلدات والجبال والوديان وما إلى ذلك، بأسماء عبرية (أسرلة) أخذت من مصادر مختلفة أو اخترعت في الحالات التي لم يتوفر فيها مصدر ملائم.


لم تنج سوى أعداد قليلة من البيوت العربية والمساجد والكنائس من انتهاك الحرمة، عن طريق تحويلها إلى خمارات وملاه ليلية وحظائر أبقار أو إلى كنس يهودية.


وقامت الحركة الصهيونية بتحوير الأسماء العربية للمقامات والقرى المهجرة، ومنح أسماء عبرية مطابقة أو مشابهة للمستوطنات اليهودية المقامة على أنقاضها، في محاولة لنسب هذه الأماكن للأصول العبرية، وبأن هذه القرى كان يسكنها يهود قبل الحقبتين الكنعانية والعربية.


وقد نشطت في الأعوام الماضية حملات يقوم بها نشطاء وباحثون فلسطينيون لإعادة إحياء ذكرى القرى المدمرة أو المهجرة عام 1949 وعام 1948، خاصة في محيط مدينة القدس المحتلة، وتقوم مجموعات شبابية، بعضها مستقل والآخر تابع لمؤسسات أو أندية شبابية، بتنظيم جولات برفقة مرشدين يتحدثون عن أهل القرى وتاريخها وما تبقى من آثارها اليوم.


لا توجد إحصائية متكاملة عن أسماء الأماكن في فلسطين التي تشمل أسماء القرى، والمدن، والجبال والوديان، والعيون، والخرب، والأماكن المقدسة للأولياء، ومضارب البدو وغيرها. لكن هناك بعض الإحصائيات تقدرها بنحو عشرة آلاف اسم. أما عدد أسماء القرى والمدن، فيقدر بناء على أطلس فلسطين بنحو 1600 قرية ومدينة.


الأسماء والأماكن هي أحد أهم تجليات ومظاهر الذاكرة الثقافية والتاريخية والحقوقية للشعب الفلسطيني لنحو خمسة آلاف سنة من التاريخ الموثق لتلك الأسماء، التي استمرت بأسمائها العربية وباللهجة الفلسطينية حتى اليوم، رغم عمليات “الأسرلة” التي تحاول طمس هوية تلك الأماكن وإنكار وجودها أصلا.


وربما تحمل الأجيال السابقة مسؤولية إهمال إعادة القرى المدمرة إلى الحياة، عبر القيام بحملات قانونية وتوثيقية وبحثية، لكن يبدو أن الجيل الحالي الذي تربى على الأجهزة الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي، يمتلك الفرصة لبعثها من جديد وكأنها لا تزال تعج بأصوات أهلها وضحكات أطفالها وأصوات البائعة المتجولين وأصوات المصلين في المساجد والكنائس، عبر حملات قانونية وإعلامية وبحثية.


لقد قاتل الفلسطينيون ببسالة عن قراهم في مواجهة الهجمة الصهيونية، شأنهم دائما على مر السنين، لكن ضعف التسلح وقلة الذخيرة وعدم وجود أية إمدادات، أفقدهم المبادرة والقدرة على الصمود.


وقد تكون رسالة القائد عبد القادر الحسيني إلى الجامعة العربية أكبر دليل على أن المدن والقرى الفلسطينية تركت دون سلاح لمواجهة مصيرها ودمارها، وهي رسالة شكلت عملية إدانة لدور النظام الرسمي العربي في سقوط المدن والقرى الفلسطينية حين حملها مسؤولية خذلانه، يقول الحسيني مخاطبا الجامعة العربية:


“جئتكم أطلب سلاحا لأدافع به عن فلسطين، أما وقد خذلت، فأبلغكم أننا لن نرمي السلاح حتى النصر أو الشهادة. أنا ذاهب إلى القسطل، ولن أسأل أحدكم أن يرافقني؛ لأنني أعرف حقيقة مواقفكم، ولكني أحذركم بأن التاريخ سيكتب أنكم خذلتم الأمة وبعتم فلسطين..وأن التاريخ لا يرحم أحدا”.
وفي رسالة بخط يده ومتداولة بشكل واسع إلى أمين عام الجامعة العربية عبد الرحمن عزام يقول: “السيد الأمين العام لجامعة الدول العربية… القاهرة.. إني أحملكم المسؤولية بعد أن تركتم جنودي في أوج انتصاراتهم بدون عون أو سلاح”.


هذه البرقية المغمسة بالمرارة والغضب والغيرة، سبقتها صيحة غاضبة أطلقها الحسيني ضد المؤسسة الرسمية العربية المتخاذلة: “نحن أحق بالسلاح المُخَزَّن من المزابل، إن التاريخ سيتهمكم بإضاعة فلسطين، وإنني سأموت في القسطل قبل أن أرى تقصيركم وتواطؤكم”.


ولم يأت يوم انسحاب سلطات الانتداب البريطاني من فلسطين، حتى كانت الحركة الصهيونية قد أجهزت على فلسطين؛ فقتلت ودمرت وشردت، بعد أن ألقى النظام الرسمي العربي أسلحته في مزابل التاريخ.