“كما لم أختر أمي وأبي ووطني، لم أختر قضيتي، فالمسألة الفلسطينية ولِدت مع ميلاد المنطقة الحديثة التي كُنيت بالعالم العربي”
أحمد الفيتوري كاتب
ما أتذكره هذه الساعة، جلي وواضح كما لا شيء في حياتي، يونيو (حزيران) 1969، حينها بدا لي الوعي والرجولة معاً، كنت في خاتمة تعليمي بالمرحلة الابتدائية، وفي لمة لصبيان في عمري، عند جامع الحي تجمعنا. صبي يكبرنا بسنوات أخذ في تمثيل دور الزعيم، أراد دفعنا إلى الانتقام من الهزيمة، بأن نرمي قنابل مولوتوف على معسكر الجيش الإنجليزي، الذي يقع في حي قريب. بدأت الفكرة تعبيراً عن الإرادة، لم يفكر في ظني أحد: هل نستطيع فعل ما نريد؟ ولهذا السبب لم نفعل، ذهبت أدراج الرياح، فكرة الانتقام، وذهبت ريحنا.
بهكذا مشهد بدأت حياتي ونضجي، بصلة بالقضية الوطنية العربية، هكذا منذ البدء كانت فلسطين مركز هويتي، لكن أي فلسطين؟ إنها فلسطين التي سُميت حينها النكسة، نكسة يونيو أو الأيام الستة أو 5 يونيو (حزيران). لأكتشف حينها، مع الاطلاع حول المسألة، أنها قبل كانت النكبة أي منذ 15 مايو (أيار).
وكما لم أختر أمي وأبي ووطني، لم أختر قضيتي، فالمسألة الفلسطينية ولِدت مع ميلاد المنطقة الحديثة، التي كُنيت بالعالم العربي، وفي خضم خوض غمار استقلال ليبيا، كانت المسألة الفلسطينية بمحاذاة المسألة الليبية. جيل أبي مَن خاض معركة استقلال ليبيا، خاض حرب فلسطين، وليس بالمصادفة أن من الليبيين، الذين اصطدموا بالإنجليز، مَن كانوا يحتلون ليبيا عقب الحرب الكبرى الثانية، منهم من ذهب إلى فلسطين، للمشاركة في حرب 1948. بل تذكر الأحداث أن أول تظاهرة، حصلت في مدينتي أثناء خوض الاستقلال، كانت تخص مسألة التطبيع مع العدو الصهيوني، حيث اتُهم تاجر، بأنه ينوي تصدير أغنام إلى إسرائيل، الكيان الذي أعلنت الأمم المتحدة عن نشأته، كما فعلت ذلك مع ليبيا حينها.
إذا كانت “فلسطين النكبة” قد تجاوزت السبعين، وكانت “ليبيا الاستقلال” تقارب ذلك، فإني أيضاً في العقد السابع من العمر. هذا العمر عشته ومسألة المسائل فلسطين، لكن في الوقت نفسه، كانت المسألة الليبية على الطاولة. فبعد عامين من نكسة العرب 5 يونيو 1967، قام انقلاب عسكري في 1 سبتمبر (أيلول) 1969 في بلادي، ادعى أن كلمة سره “القدس”، وحمل شعار: حرية، اشتراكية، وحدة. وأثناء هذا وذاك خيضت حروب عدة، واتضح لي أنني أعيش في منطقة، كُتبت عليها خطى الحرب، على الرغم من انتهائها عند جارتها أوروبا منذ الحرب الكبرى الثانية.
اليوم كما أمس عند العرب، فالمسألة الفلسطينية تبدو على الطاولة كما كانت، وكأن أمس هو اليوم. اليوم في 2021 يحدث ما حدث في مايو 1948. وجامعة الدول العربية تجتمع كما اجتمعت عند البدء، لدراسة المسألة الفلسطينية بمحاذاة المسألة الليبية، التي عادت إليها كما لحظة خوض استقلالها، واختلاف أهلها حول ذلك. وعاد المجتمعون في جامعة العرب، بزيادة في عدد دولها، إلى الاختلاف حول تقويم الوضع العربي، حول مسألة المسائل فلسطين، كما مع المسألة الليبية، وغيرها من مسائل مستجدة وقديمة.
كنت عند العقد الأول وبدء الثاني، والآن في العقد السابع، وما يحدث الساعة هو كما عود على بدء، في ما يخص المنطقة وما يخص فلسطين المسألة الأولى. وأيضاً ما يخص ليبيا، التي في 5 يونيو 1967، كانت التظاهرات تعمها، احتجاجاً من الطلبة على موقفها من القضية العربية. وكنت أحسب الوعي والرجولة بالموقف من القضية ذاتها، التي لم تكن قضية تخص شعباً ما أو جماعة ما، أو مكاناً محدداً، أو زماناً، القضية كانت عندئذٍ مسألة بشرية تجاوزت الزمان والمكان، ولهذا تجاوزت الزمان والمكان، فبالنسبة لي شخصياً، تشخصت بنضج الجسد والعقل.
لهذه الاعتبارات ما يحدث عود على بدء، ولنفس الاعتبارات، ما فُعل في السابق كما اليوم، وهو المستطاع وليس المراد. نعم تبدو المعطيات كما كانت، ليس في يد الفلسطينيين ولا الليبيين ولا العرب، ولا في يدي الأمر، فما يحدث ليس بالمستطاع حتى الآن تغييره.
حتى لم يمكن إصدار قرار من الأمم المتحدة، بعد ثلاثة اجتماعات فاشلة، لأن الولايات المتحدة لا تريد ذلك. وحتى أن المسألة الليبية، بحاجة إلى “برلين 2” في يونيو المقبل. وحتى أني أريد أن أنهي المقال، بالعود على بدء: “بدأت الفكرة تعبيراً عن الإرادة، لم يفكر في ظني أحد: هل نستطيع فعل ما نريد؟ ولهذا السبب لم نفعل، ذهبت الفكرة أدراج الرياح، وذهبت ريحنا”… وحتى الآن لسان الحال، ليس فقط يكرر الأشياء نفسها، بل وأيضاً يقولها بالطريقة نفسها!