حرب غزة وحساباتها في صراع جيوسياسي واسع


يسأل الفلسطينيون والعرب أنفسهم: ماذا بعد انقشاع الغبار وما هي الخطوة التالية؟

رفيق خوري كاتب مقالات رأي

حرب غزة تفتح، مثل حروب إسرائيل في لبنان، باب الاستعجال في حساب الأرباح والخسائر. لا فقط بالمعنى المادي والإنساني لجهة الدمار الهائل وأعداد الضحايا والجرحى والمشردين بل أيضاً وفوق ذلك بالمعنى الاستراتيجي. أولاً في إطار البطولات والكفاءة في استخدام السلاح وإدارة المعارك. وثانياً في إطار المعادلات الجديدة التي ترسمها نتائج الحرب. وما أكثر ما سمعناه وقرأناه في الأيام الماضية، بحيث بدا مستقبل المنطقة وقضية فلسطين كأنه كتاب مفتوح يضم بين فصوله أوراقاً بيضاً يكتب عليها كل طرف ما يتصوره أو يوافق رغباته. لكن الواقع أن حرب غزة، بكل ما فيها من عنف وحسابات سياسية ومبارزة بالقصف الجوي والقصف بالصواريخ، ليست من النوع الذي يقود إلى حسم أو نصر كامل لأي طرف. لا بالضربة القاضية. ولا حتى بالنقاط. فكل طرف يربح شيئاً ما ويخسر شيئاً ما. والموازنة بين كلفة الحرب ونتائجها هي من النقاط الأساسية التي شدد عليها كلاوزفيتز. وأبسط ما تعلمه بسمارك من تجربته في توحيد المافيا بـ”الدم والحديد” وحروب أوروبا هو قوله “ويل لرجل الدولة الذي لا تكون حججه في نهاية الحرب مقنعة كما كانت في بدايتها”.

المطلوب على المدى القريب واضح: نوع من الهدنة. إسرائيل حددت أهدافها القريبة بلسان نتنياهو الراغب في أن تخربط الحرب الأوراق السياسية بالنسبة إلى تأليف الحكومة. وهي: “إعادة الهدوء والأمن”، إجبار “حماس” و”الجهاد الإسلامي” على”دفع الثمن”، و”استعادة الردع”. وهذا باختصار ضمن “الحلم السري لإسرائيل وهو تشريع الستاتيكو”، كما قال الدكتور كيسينجر.

وغزة حددت أهدافها القريبة بلسان إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لـ”حماس” الذي يضع تحرير فلسطين كهدف نهائي، وهي: “حل على مستوى التضحيات والبطولات”. وليس من أسرار الآلهة ما في الحسابات السياسية لـ”حماس” وإيران من تركيز على الملف النووي كما على القدس كرمز للصراع مع إسرائيل على المستوى العربي والمستوى الإسلامي، ومن ربط قضية فلسطين بمحور “الممانعة والمقاومة” الذي تقوده إيران. ولا ما في الحسابات البعيدة لإسرائيل وأميركا بالنسبة إلى الصراعات الجيوسياسية الواسعة في المنطقة، وآفاق العلاقات بين تل أبيب وعواصم عربية عدة.

صحيح أن حديث التسوية السياسية للصراع العربي-الإسرائيلي أو أقله للنزاع الفلسطيني- الإسرائيلي ضمن “حل الدولتين” عاد إلى التداول في واشنطن. وهو أصلاً محل متابعة في موسكو وبكين وباريس ولندن. لكن الصحيح أيضاً أن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن يقول بصراحة إن حل الدولتين “صعب وليس في مستقبل قريب”. فضلاً عن أن التسوية ليست في برنامج “حماس” و”الجهاد الإسلامي”. ومن الوهم الوصول إليها ولو ضغطت إدارة الرئيس جو بايدن على إسرائيل، ما دام الانقسام مستمراً بين الضفة الغربية وقطاع غزة. أما الحرب الشاملة التي يقول المتحمسون لها إن حرب غزة كشفت إمكان الذهاب إليها واستحالة أن تواجه إسرائيل فتح كل الجبهات عليها، فإنها من أحلام اليقظة. لماذا؟ لأنها مسألة مرتبطة بالحسابات الدولية الكبيرة في أميركا وروسيا والصين وأوروبا. وأقصى ما جرى الاتفاق عليه في الاجتماع الطارئ الافتراضي في الجامعة العربية، ثم في اللقاء الطارئ لمنظمة التعاون الإسلامي، هو دعوة المجتمع الدولي إلى تحمل مسؤولياته. أي مسؤوليات وأي مجتمع دولي؟ مجلس الأمن عاجز حتى عن إصدار مجرد بيان، قبل الكلام عن قرار. ولا مهرب من أن يسأل الفلسطينيون والعرب أنفسهم: ماذا بعد انقشاع الغبار عن حرب غزة؟ ما هي الخطوة التالية؟

خلال الحرب العالمية الثانية قال تشرشل: “إذا غزا هتلر الجحيم فسوف أتحدث جيداً عن الشيطان في مجلس العموم”. ومشكلتنا أننا نوجه اللوم إلى أصدقائنا بدل أن نلوم أنفسنا ونقوم بكثير من النقد الذاتي.