لماذا اختلف الخطاب الأميركي حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؟


تحالف ترمب نتنياهو وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية خلقت واقعاً مغايراً 

طارق الشامي صحافي متخصص في الشؤون الأميركية والعربية @tarek21shamy

خلافاً لجميع حالات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي السابقة والتي شهدت مساندة أميركية مطلقة لإسرائيل، استُخدم خطاباً مغايراً في واشنطن حول الصراع الحالي عكسته الصحافة ووسائل الاعلام فضلاً عن التيار اليساري والمعتدل في الحزب الديمقراطي بل وبعض الجماعات المؤيدة لإسرائيل مثل “جيه ستريت” وفي داخل الحزب الجمهوري نفسه، ما شكل ضغطاً على إدارة جو بايدن للتدخل بقوة أكبر لوقف إطلاق النار، جعلت الرئيس الأميركي يدعم ولأول مرة وقف إطلاق النار، فما سبب وملامح هذا التغير وكيف يمكن أن يؤثر على الصراع؟ 

مأزق بايدن 
 
تبدو إدارة الرئيس الأميركي في مأزق صعب بعد عدة أيام من اندلاع الصراع من جديد بين الفلسطينيين وإسرائيل، ليس فقط لأنها أعطت أولويات سياستها الخارجية لمناطق أخرى بعيداً عن الشرق الأوسط، بل أيضاً لأنها كانت مترددة بشكل واضح وغير مستعدة لمواجهة تدهور الوضع على النحو الذي وصل إليه الصراع، وكان هذا كافياً لتلقي انتقادات واسعة من كل الأطراف، فاليمين الجمهوري المتحالف بقوة مع إسرائيل اتهم بايدن بعدم مساندة إسرائيل بشكل لا لبس فيه، في مواجهة ما يعتبره اليمين هجمات صاروخية إرهابية، في حين ارتفعت أصوات أعضاء الكونغرس اليساريين في الحزب الديمقراطي معبرة عن استيائها من رغبة بايدن عدم انتقاد أفعال وسياسات إسرائيل.

وفيما طالب 27 من أعضاء مجلس الشيوخ بوقف العنف فوراً، أطلق السناتور كريس ميرفي رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ مع السناتور الجمهوري في اللجنة تود يانغ بياناً يدعو إسرائيل وحماس إلى وقف إطلاق النار وإدراك أن الكثير من الأرواح فقدت ما يستلزم عدم التصعيد، بينما قاطعت منظمات إسلامية حفلاً عبر الإنترنت نظمه البيت الأبيض احتفالاً بعيد الفطر احتجاجاً على ما اعتبرته تواطؤاً من الإدارة الأميركية لزيادة معاناة الفلسطينيين.

تحت الضغط 

ومع هذا الضغط اضطر بايدن خلال اتصال مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى المطالبة ولأول مرة بوقف إطلاق النار، بعدما كان أول رد فعل لإدارة بايدن هو مساندة حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، ومنع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، من إصدار بيان يدعو إلى وقف إطلاق النار أو توجيه أي شكل من أشكال تحميل إسرائيل وحماس مسؤولية مشتركة عن انفلات الوضع الأمني وهو ما سمح لنتنياهو وقتها، التأكيد على أن بلاده ليست مستعدة لوقف العمليات العسكرية بغض النظر عن الغضب الدولي المتصاعد بشأن تجاوزات القصف الذي قتل وأصاب مئات المدنيين. 

وعلى الرغم من تبرير إسرائيل قصفها لمئات الأهداف في غزة بأنه رد ضروري على التهديد الذي تشكله حماس، إلا أن هجومها الذي أدى إلى تدمير البنية التحتية الحيوية في القطاع والمباني والأبراج التي تضم مكاتب وسائل الإعلام الدولية والتي كان من بينها مكاتب وكالة الأسوشيتدبرس الأميركية، ترك انطباعات سيئة في واشنطن، خاصة مع إنكار الأميركيين وجود أي تنسيق مع الإسرائيليين أو إخطارهم بالقصف قبل شن الهجوم. 

أرضية مختلفة 

ولا شك أن محاولات الإخلاء القسري للفلسطينيين في منطقة الشيخ جراح بالقدس الشرقية وحملة الصواريخ المستمرة من حماس ضد إسرائيل، خلقت حراكاً سياسياً شائكاً بين الديمقراطيين في الكونغرس، والذين بدأ المزيد منهم التشكيك في الدعم المتواصل من الحزبين لإسرائيل والذي كان سائداً في واشنطن على مدى عقود طويلة، فعلى الرغم من أنهم لم يتخلوا عن علاقات أمريكا القوية تاريخياً مع إسرائيل، فإن الديمقراطيين لم يترددوا على مدى الأيام القليلة الماضية في الدعوة لاتخاذ موقف أكثر صرامة ضد ما وصفوه بالعدوان على الفلسطينيين.

وبعد الدعم الهائل الذي منحته إدارة الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترمب لإسرائيل والذي تجاوز الإطار الدبلوماسي الذي تحركت فيه الإدارات الأميركية المتعاقبة من الحزبين، تشكلت الآن أرضية جديدة قوية جداً في الحزب الديمقراطي تريد رؤية سياسة أميركية متوازنة تعترف باحتياجات إسرائيل الأمنية وحقوقها عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن نفسها ضد الصواريخ والإرهاب، ولكنها تدرك في الوقت نفسه أن ذلك الصراع لن ينتهي أبداً ما لم يحصل الفلسطينيون على حقوقهم وحرياتهم. 

هجوم ديمقراطي

ومن اللافت الآن متابعة هجوم الديمقراطيين على الحكومة الإسرائيلية لما يرون أنه حملة قمع تأتي بنتائج عكسية ضد الفلسطينيين داخل حدودها، وهو ما أشار إليه على سبيل المثال السناتور الديمقراطي كريس فان هولين الذي أشار إلى عمليات إخلاء الفلسطينيين باعتبارها انتهاكاً للقانون الدولي وأنه على إدارة بايدن التي وضعت سيادة القانون وحقوق الإنسان في صميم سياستها الخارجية، أن تفعل شيئاً على الأرض ولا تكتفي بتصريحات فاترة. 

أما السناتور الديمقراطي كريس مورفي، فبرغم انتقاده حماس لأنها ارتكبت خطأ فادحاً بإطلاقها صواريخ استفزازية على إسرائيل، فإنه أوضح أن الوصول إلى هذه النقطة يعود إلى أن الحكومة الإسرائيلية قضت فعلياً على احتمال قيام دولة فلسطينية مستقبلية قابلة للحياة.

وفيما يبذل كبار المسؤولين الأميركيين جهودهم للتوسط في وقف إطلاق النار مع ارتفاع عدد القتلى كل يوم، إلا أن هناك إدراكاً متزايداً بأن وقف إطلاق النار وحده لن يعالج إعاقة الحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو، قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. 

العدالة الاجتماعية 

ولعل أحد أبرز دوافع اليسار في الحزب الديمقراطي لاتخاذ موقف مختلف، هو ما عبر عنه السناتور بيرني ساندرز في صحيفة “نيويورك تايمز” والذي سلط الضوء على جانب آخر بعيداً عن صواريخ حركة حماس وهو الواقع الأعمق لحياة ملايين الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الحصار والاحتلال، والمحاولات القانونية الإسرائيلية المشكوك فيها لإجلاء السكان الفلسطينيين قسراً من أحد أحياء مدينة القدس المتنازع عليها، فقد اعتبر ساندرز أن لا شيء يبرر هجمات حماس، التي كانت حسبما يقول، محاولة لاستغلال الاضطرابات في القدس وإخفاقات السلطة الفلسطينية التي أجلت مؤخراً الانتخابات التي طال انتظارها،لكن حقيقة الأمر أن إسرائيل تظل السلطة الوحيدة ذات السيادة في أرض إسرائيل وفلسطين، وبدلاً من التحضير للسلام والعدالة، فإنها تعمل على ترسيخ سيطرتها غير المتكافئة وغير الديمقراطية. 

ومع الاعتراف بأن دعم الحزبين الجمهوري والديمقراطي لإسرائيل لا يزال قائماً، لكن التركيز الجديد على الحقوق الفلسطينية وليس فقط الهدف المتمثل في إقامة دولة فلسطينية، دفع المزيد من الناس إلى رؤية الصراع من منظور أكثر وضوحاً للعدالة الاجتماعية وأن حقوق الفلسطينيين مهمة، مثلما حياة الفلسطينيين مهمة، على غرار حركة “حياة السود مهمة” والتي ألهمت الكثير في الولايات المتحدة خلال الصيف الماضي على المطالبة بالعدالة الاجتماعية والمساواة. 

ولم يكن التيار اليساري وحيداً في هذه الرؤية، فقد أصدر عدد من المشرعين الديمقراطيين، بمن فيهم مجموعة من السياسيين المؤيدين بشدة لإسرائيل، بيانات تشير إلى استيائهم من الخسائر الناجمة عن الهجمات الإسرائيلية على غزة، بل كان بعضهم أكثر جرأة في اتهام إسرائيل باستخدام سياسات الفصل العنصري، وهي تهمة وجهتها في الأشهر الأخيرة جماعات حقوقية بارزة، لكنها كانت من المحرمات في واشنطن. 

اختبار حقوق الإنسان

ولأن إدارة بايدن بشكل خاص تبنت الدفاع عن حقوق الإنسان حول العالم قبل أن تأتي إلى السلطة وأعلنت عن التزامها بمبادئها بعد وصول بايدن إلى البيت الأبيض، فإنها تجد نفسها اليوم أمام اختبار شائك على المسرح العالمي، كونها تبدو بعيدة كل البعد عن هذه الالتزامات والقيم المعلنة عندما يتعلق الأمر بمعاملة إسرائيل للفلسطينيين، الأمر الذي يبرز نقاط ضعف في الحكومة الأميركية يمكن أن يستغلها الآخرون بسهولة، وهو ما حذرت منه صحف أميركية حينما قالت إن الصين سوف تستغل ذلك بقوة وتقول إذا طالبنا الأميركيون بحقوق الأقلية المسلمة من الإيغور، فسوف نطالبهم بحقوق الفلسطينيين، وليس هذا ببعيد عن اتهام الصين للولايات المتحدة بعدم تحمل مسؤولياتها الواجبة في مجلس الأمن عندما عرقلت جهود الدول الـ 14 الآخرين في المجلس لإصدار بيان يدعو لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس. 

ولعل أبرز سمات التغير الذي تشهده واشنطن، تجسده تصريحات جيريمي بن عامي، رئيس جماعة “جيه ستريت” وهي منظمة مؤيدة لإسرائيل تمثل يسار الوسط حينما قال إن التأييد المطلق لإسرائيل من قبل الإدارات الأميركية المتعاقبة وكأنه شيك على بياض، يعني أن إسرائيل ليس لديها حافز لإنهاء الاحتلال وإيجاد حل للصراع.

ربما يكون تحالف الرئيس دونالد ترمب الوثيق مع نتنياهو قد ساعد في تآكل الإجماع القوي بين الحزبين حول إسرائيل، لكن العديد من الديمقراطيين يعترفون أن أسلاف ترمب، بمن فيهم بايدن نفسه خلال سنوات حكم أوباما، لم يوقفوا التوسع المطرد في المستوطنات الإسرائيلية أو يفرضوا أي قيود على إسرائيل بسبب إعاقتها احتمالات قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. ولهذا يبدو الالتزام الأميركي بأمن إسرائيل الآن مرتبطاً بضرورة إدراك الإدارة الأميركية، بأهمية العمل على وقف الضم المستمر للأراضي الفلسطينية وترسيخ واقع الدولة الواحدة.

بيئة مغايرة 

ولا يبدو أن التغيير في المواقف يقتصر على الحزب الديمقراطي فقط، حيث تعتقد أغلبية ضئيلة من الأميركيين وفقاً لاستطلاع للرأي أجرته مؤسسة غالوب الأميركية أن على حكومة الولايات المتحدة ممارسة المزيد من الضغط على إسرائيل. 

ووجد شبلي تلحمي أستاذ العلوم السياسية في جامعة ميريلاند، والذي أمضى العقود الثلاثة الماضية في استطلاع آراء الأميركيين حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أن غالبية الأميركيين الذين شملهم الاستطلاع يعتقدون أن أعضاء الكونغرس يميلون إلى دعم إسرائيل أكثر مما يعبر عنه الرأي العام الأميركي الذي انتخبهم.

ووفقاً لدراسات أجراها تلحمي، فإن غالبية الناخبين الديمقراطيين يؤيدون فرض عقوبات أو على الأقل شكل من أشكال الإجراءات الأكثر صرامة على إسرائيل بسبب توسعها في بناء المستوطنات، كما تشير الدراسات أنه إذا لم يعد حل الدولتين ممكناً، فإن أغلبية كبيرة من الأميركيين بما في ذلك غالبية الجمهوريين، يفضلون أن تكون إسرائيل دولة ديمقراطية، حتى لو لم تعد دولة يهودية، على أن تكون دولة يهودية بدون مساواة كاملة لجميع المواطنين. 

وبصرف النظر عما إذا كانت جهود إدارة بايدن لوقف إطلاق النار ستكلل بالنجاح، إلا أن ما شهدته الولايات المتحدة من نقاشات خلال الأيام القليلة الماضية لا تترك مجالاً للشك في أن ثمة تغيراً واضحاً قد حدث في فكرة الدعم المطلق لإسرائيل داخل الولايات المتحدة، وهو ما قد ينعكس على سلوك وتصرفات الإدارة الأميركية الآن أو مستقبلاً.