“وفّر الصحافي تيدور هرتزل الغطاء الإيديولوجي لحل المسألة اليهودية بأن جعل من الدين قوميةً لهؤلاء الأوروبيين غير المرغوب فيهم”
أحمد الفيتوري كاتب
أنت تفعل ما تستطيع، لا ما تريد، هذه البديهة تجعلك تردد مع المتنبي: “عيد بأي حال عدت”، ثم تنظر إلى الخلف، فتجد أنك عشت في عالم، فيه التهنئة بالعيد: “كل عام وأنتم في حرب”، وقد تكون الحرب في بيتك، بما يسمونها الحرب الأهلية، وقد تكون في دولة بمنطقتك! لا قِبل لها في الحياة دون حرب. أنت إنسان مثل كل البشر، لا تقبل بحياة مثل هذه، فما الذي يجعل الحروب في المنطقة كما منطق الضرورة، ما ليس منه بدّ، منذ الحرب الكبرى الثانية، ولم تمر سنة إلا وكانت من سنين الحرب، ما فرض عين، أي من لزوم ما يلزم…
في تصريح أول لـ”يائير لبيد” النجم التلفزيوني الإسرائيلي، زعيم حزب “هناك مستقبل”، المكلف بتشكيل الحكومة، بعد انتخابات رابعة أن “إسرائيل لا تعاني من أزمة سياسية فحسب، بل من أزمة بنيوية…”، فما الذي تعنيه هذه الأزمة المميزة؟ قبل ذلك لا بُد من ذِكر، أن الأزمة السياسية في إسرائيل، جعلتها تلجأ إلى أربعة انتخابات في غضون سنتين، وأن رئيس الوزراء نتنياهو، الذي تمكن أن يكون رئيس الوزراء للمدة الأطول، لـ15 سنة، متهم بالفساد والرشوة وخيانة الأمانة. وجعل ذلك حال الدولة في دائرة مفرغة، فنتنياهو المسيطر على اللجام، غير قادر على لجم جماح فرس الانتخابات الجامحة. وهذا الممسك باللجام متهم، وممكن أن يكون في السجن فور تركه رئاسة الحكومة.
ونشر الكاتب الإسرائيلي، آري شبيت في صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، مقالاً حمل العنوان التالي: “إسرائيل تلفظ أنفاسها الأخيرة”، معلقاً على ما يحدث. وجاء في المقال أن “الإسرائيليين منذ أن جاؤوا إلى فلسطين، يدركون أنهم حصيلة كذبة، ابتدعتها الحركة الصهيونية، استخدمت خلالها كل المكر، في الشخصية اليهودية عبر التاريخ. ومن خلال استغلال ما سُمي المحرقة على يد هتلر “الهولوكوست” وتضخيمها، استطاعت الحركة أن تقنع العالم بأن فلسطين هي “أرض الميعاد”، وأن الهيكل المزعوم موجود تحت المسجد الأقصى، وهكذا تحول الذئب إلى حمَل يرضع من أموال دافعي الضرائب الأميركيين والأوروبيين، حتى بات وحشاً نووياً”.
وهذا يعيد الأزمة إلى أولها، فما هو بنيوي لا يمكن حلحلته، فقبل أن تولد اسرائيل، كان المراد منها حلاً لمشكلة أوروبية قومية رأسمالية، عُرفت باسم “المسألة اليهودية”. هذه المسألة التي جعلت المجمعات الأوروبية منقسمة ومتعارضة، فيها مواطنون يمثلون أغلبية، وآخرون أقلية يعيشون في “غيتو”. غيتو ديني في دولة قومية ديمقراطية. وقد وفّر الصحافي “تيدور هرتزل” (1860 – 1904) الغطاء الإيديولوجي لحل هذه المسألة، بأن جعل من الدين قوميةً لهؤلاء الأوروبيين غير المرغوب فيهم. وتم البحث عن “غيتو” لنفي هؤلاء المواطنين ذوي القومية الدينية (اليهود). في الأخير ومن خلال أسطورة دينية تاريخية، كان المنفى “فلسطين”، والغيتو البديل “دولة إسرائيل”.
“غيتو إسرائيل” بمثابة منفى لمشكل، هم بشر من قوميات وثقافات وتاريخ مختلف. ومن هذا ومنذ البدء، كان الأوربيون المنفيون (اليهود) لأسباب دينية، يشكلون تجمّع قسري خطر، لا ينجو من نفسه، من حرب داخلية، إلا بحروب خارجية التي تمنحه “السلام – نجاة”، اسرائيل. وليس اغتيال “اسحاق رابين” أحد فرسان “إسرائيل-الحرب” إلا التعبير عن معنى الوجود هذا.
كذلك ميوعة الحدود الجيوسياسية لإسرائيل، تشكل جانباً من وجهها الإسبرطي، الذي له جانب آخر هو “التسوُّر” كما في العصور الوسطى، فمثل دولة اسرائيل لا مثيل لها في العالم، دولة قلعة يضمها سور بالفعل هو السور الإسمنتي (الجدار العازل) الذي يفصلها عن محيطها، ثم السور بالقوة وهو الأنياب النووية.
“إسرائيل في خطر”، معنى وجود إسرائيل: دولة دينية يهودية في محيط لا تقبله، هذا ما جعلها تساهم في تكوين: دولة شيعية غير مسماة علناً، “دولة حزب الله” على الجانب الجنوبي من لبنان، وعلى الجانب الآخر، دولة سنية غير مسماة صراحةً أيضاً، “دولة حماس”. وخلال العقدين الأخرين تقريباً، قاد اليمين اليهودي الدولة بقيادة الملك نتنياهو! ضمن هذا الإطار الخطر، وقاد حروباً ساخنة وباردة لأجل المحافظة على مكسب توفر: عدو مماثل. فالدولة في إسرائيل إن لم تتوفر لها أزمة، تعمل على خلقها، ثم تصدّر هذه الأزمة إلى الخارج، لأن اسرائيل دون خطر تتآكل، وتصاب بالشيخوخة وتنهار.
“غيتو إسرائيل” في ذروة أزماته، والحرب منقذة من نزيف الدورة الانتخابية، التي يبدو أن الخامسة منها على الأبواب، وذلك في غضون 24 شهر ليس إلا. ولهذا فإن الكاتب الإسرائيلي “آري شبيت”، في مقالته بصحيفة “هآرتس” المشار إليها آنفاً، أضاف “إذا كان الوضع كذلك، فإنه لا طعم للعيش في هذه البلاد، وليس هناك طعم للكتابة في هآرتس، ولا طعم لقراءة هآرتس. يجب فعل ما اقترحه “روغل ألفر” قبل عامين، وهو مغادرة البلاد. إذا كانت “الإسرائيلية” واليهودية ليستا عاملاً حيوياً في الهوية، وإذا كان هناك جواز سفر أجنبي لكل مواطن إسرائيلي، ليس فقط بالمعنى التقني، بل بالمعنى النفسي أيضاً، فقد انتهى الأمر. يجب توديع الأصدقاء والانتقال إلى سان فرانسيسكو أو برلين أو باريس. من هناك، من بلاد القومية المتطرفة الألمانية الجديدة، أو بلاد القومية المتطرفة الأميركية الجديدة، يجب النظر بهدوء ومشاهدة “دولة إسرائيل” وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة. يجب أن نخطو ثلاث خطوات إلى الوراء، لنشاهد الدولة اليهودية الديمقراطية وهي تغرق…”.
وفي مقالي هذا، لست في مقام “وشهد شاهد من أهلها”، ولا في مقام ما يحدث الساعة من حرب، ولا في عيد وشعار إسرائيلي: “كل عام وأنتم في حرب”، لست في هذا ولا ذاك، ولكن لأن لكل مقال مقام، فالحين حان لإعادة التنويه: أن حل المسألة اليهودية، بإقامة “غيتو اسرائيل”، لم يكن حلاً عند أباءه المؤسسين وكذلك عند الأحفاد، من هم في حالة إقامة مؤقتة أو في ما اقترحه “روغل ألفر”…