حفظ الرأس وخسارته عند تغيير الدول


يسعى أردوغان لاستعادة خطاب الصداقة بعد عداوة مع مصر وبدأ التضييق على الإخوان المسلمين

رفيق خوري كاتب مقالات رأي

ليس في السياسات ثوابت، وإن كثر الحديث عنها في الخطاب الرسمي. والكل يعرف الحكمة الشهيرة، “عند تغيير الدول أحفظ رأسك”. ولكن، لا أحد يريد أن يتعلم الدرس الذي يتكرر أمام عيون الجميع؛ المواقف تدور مع المصالح. وهذه تدار بعقل بارد خارج العواطف والتعهدات وحتى القناعات. والنسخة الأحدث للدرس المتكرر هي قصة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وجماعة” الإخوان المسلمين”.

 أردوغان الذي انتقل من القرع على باب الاتحاد الأوروبي الى النفخ في”العثمانية الجديدة” راهن على توظيف الإخوان المسلمين في خدمة زعامته ومشروعه “السلطاني” بمقدار ما راهنوا هم على قوة تركيا في خدمة مشروعهم لاستعادة “الخلافة”. وعندما أخرجهم الجيش مصحوباً بثورة شعبية وقوة وطنية مصرية من السلطة، خاصم أردوغان القاهرة ولعب دور رأس الحربة في العمل ضد النظام الجديد؛ إسطنبول صارت الملاذ الآمن للإخوان الذين يديرون عمليات الإرهاب في مصر ويشنون الهجوم عليها من خلال محطات تلفزيونية وإذاعات ومواقع إلكترونية أنشأوها. وحين اضطر الرئيس التركي لتبديل حساباته، فإنه استعاد خطاب الصداقة مع مصر وبدأ التضييق على الجماعة. وليس واضحاً إن كان أوقف الرهان على توظيف الإخوان أم أنه سحب ورقتهم من فوق الطاولة موقتاً. لكن الدرس مكتوب على الجدار.

والمسلسل طويل. ذات يوم دعم شاه إيران محمد رضا بهلوي ثورة الكرد بزعامة الملا مصطفى البرازاني ضد النظام العراقي بالسلاح وسواه للضغط على صدام حسين. وعندما توصل في قمة الجزائر لمنظمة “أوبك” الى تفاهم مع صدام على تقاسم شط العرب، تخلى عن الكرد، وتركهم لمصيرهم في الفراغ. الرئيس السوري حافظ الأسد دعم “حزب العمال الكردستاني” بزعامة عبد الله أوج آلان وسمح له بإقامة معسكرات في البقاع اللبناني للتدريب وتنظيم عمليات ضد تركيا. وحين حشد الرئيس التركي سليمان ديميريل الجيش وهدد باجتياح سوريا طلبت دمشق من أوج آلان الرحيل وأغلقت المعسكرات وعقدت مع أنقرة “اتفاق أضنة”.

أردوغان دعم المعارضين السوريين وخصوصاً الإخوان المسلمين بالسلاح والمال، ثم وجد هؤلاء أنفسهم مجرد ورقة في لعبة المصالح التركية. أسامة بن لادن لجأ الى السودان أيام حكم الإسلام السياسي بزعامة الفريق عمر البشير وحسن الترابي، لكن الضغط الأميركي دفع الخرطوم الى ترحيله. أما الإرهابي الشهير كارلوس، فإن الضغط الفرنسي على السودان دفعه الى تسليم ضيفه الى باريس. وتلك مشكلة كل من يحتمي بقوة أكبر منه تدعمه موقتاً وتعامله كورقة جاهزة للبيع عند تبدل الحسابات.

والأمر يتكرر حتى في التحالفات بين الكبار. لينين عاد الى بطرسبورغ من سويسرا بدعم ألماني. كان هم الزعيم الشيوعي أن يسيطر البلشفيك على الثورة التي قادها المنشفيك ضد القيصر، وهم برلين إخراج روسيا من الحرب العالمية الأولى. وهذا ما حدث، بعد “ثورة أكتوبر” (تشرين الأول) 1917 عبر صلح”بريست-ليتوفسك”.

هتلر عقد مع ستالين اتفاق “مولوتوف-ريبنتروف” بعدما أرسل مصوّراً الى موسكو ليأتيه بصوّر لأذني ستالين من أجل أن يتأكد أنه ليس يهودياً. كان ما يريده هتلر هو تحييد الاتحاد السوفياتي لكي تتفرغ ألمانيا للحرب في أوروبا. وما يريده ستالين هو كسب الوقت وترك “الرأسماليات” تحارب بعضها بعضاً. لكن هتلر استدار لاجتياح الاتحاد.السوفياتي بعدما ارتاح في أوروبا. وستالين وصل الى برلين في حرب طاحنة ضد الغزو الألماني.

هتلر مهدد للحرب باتفاق مع رئيس الوزراء البريطاني تشامبرلن عبر “سلام ميونيخ”. ويروي البروفسور تشارلز بلوخ في كتاب “الرايخ الثالث والعالم” أن هتلر عرض على بريطانيا تقاسم العالم. قال لهم، “خذوا البحر، واتركوا لنا القارة، ولليابان الشرق الأقصى”. لكن لندن رفضت لأن سياستها منذ إليزابيث الأولى عدم السماح لقوة واحدة بالسيطرة على أوروبا. وهكذا اندفع هتلر في الحرب ضد بريطانيا التي لعبت بقيادة تشرشل دوراً كبيراً في الحرب، كما دفع الرئيس روزفلت للإنخراط فيها بكل قوة أميركا.

أميركا دعمت الزعيم الوطني الصيني تشن كاي تشيك في الحرب ضد اليابان. وعندما انتصرت الثورة الشيوعية بقيادة ماوتسي تونغ، فإن مدام تشن كاي تشيك اتهمت وزير الخارجية الأميركي دين أتشيسون بـ”خيانة حليف ومبادئ الحرية والديمقراطية الأميركية”، حسب كتاب كيفن بيرانو”قوة سريعة، ماو، ترومان، وولادة الصين المعاصرة1949″. واليوم يبدو السؤال الكبير في تايوان التي أقام فيها تشن كاي تشيك”الصين الوطنية”بحماية أميركا هو: هل تدخل واشنطن في حرب مع الصين إذا أرادت استعادة تايوان بالقوة؟.

جواب التاريخ والتجارب معروف.

المقاله تعبر عن راي كاتبها