بخطوة مباغتة مصرف لبنان يعلن آلية تحرير تدريجي للودائع


يدرس “المركزي” دفع أموال المودعين بشكل يمكّنهم من صرف مبلغ 25 ألف دولار

طوني بولس @TonyBoulos

في ظل انسداد الآفاق أمام تشكيل حكومة في لبنان، تتسارع التطورات والتداعيات الخطيرة الناتجة من رفع الدعم المرتقب عن السلع الأساسية، في غياب إجراءات بديلة. وتحوّلت قضية رفع الدعم إلى محور جدال بين القوى السياسية التي انقسمت بين مؤيد ومعارض.
وفي وقت يتصلّب حاكم “مصرف لبنان” (المركزي) رياض سلامة في موقفه القائل بعدم المسّ بالاحتياطات الإلزامية للمودعين، بحجة دعم السلع الأساسية، بموجب “قانون النقد والتسليف”، ويؤيده في ذلك بعض القوى السياسية المعارضة، على اعتبار أن نسبة المستفيدين من الدعم لا تتجاوز الـ30 في المئة من المواطنين، في حين يحقق بعض التجار والمهرّبين أرباحاً كبيرة.
في المقابل، يبرز موقف الرئيس اللبناني ميشال عون ومن خلفه “حزب الله” وبعض القوى المتحالفة معه، المعارضين  لرفع الدعم ولو كان على حساب الاحتياطي الإلزامي، متسلّحين بتفاقم تدهور الأوضاع الاجتماعية المتوقع إذا ما رُفع الدعم.
وفي ظل ضبابية القرار النهائي المتعلق باستمرار الدعم، أعلن “مصرف لبنان” أنه يدرس آلية لدفع أموال المودعين الذين جُمّدت حساباتهم منذ عام 2019 تدريجاً، بشكل يمكّنهم من صرف 25 ألف دولار من أموالهم على دفعات، اعتباراً من 30 يونيو (حزيران) 2021، شرط حصول المركزي على التغطية القانونية.

وبذلك أيضاً، بات بإمكان التجار شراء الدولارات من البنوك مباشرة بسعر حر لتوفير اعتمادات الاستيراد للسلع غير المدعومة، بدل شرائها من الصرافين وإيداعها في البنوك. ويُعتقد أن سماح “مصرف لبنان” للبنوك بتداول العملة بسعر السوق يهدف إلى إيجاد حد أدنى من الانضباط في السوق الموازية في مرحلة ما بعد رفع الدعم، بحيث يتمكّن “المركزي” من التدخل في السوق لضخ “العملة الخضراء” عبر قنوات منظمة، إذا ما وجد أن سعر الصرف يخرج عن السيطرة، بينما سيكون الأمر أصعب لو تُرك إلى سوق الصرافين.

تحرير الودائع

ووفق مصادر مقرّبة من المصرف المركزي، فإن السلطة غائبة كلّياً عن معالجة تداعيات رفع الدعم وتتلهّى بطرح مشروع البطاقة التمويلية من دون أي آلية اقتصادية، مشيرة إلى أن المسؤولين يسعون إلى تحميل سلامة وزر القرار منفرداً، في حين أنهم أخفقوا في وضع خطة اقتصادية متكاملة من ضمنها تشريع قانون يوازن بين حق المودعين واستقرار النظام المصرفي.

ولفتت إلى أن الآلية المقترحة تهدف إلى تحويل الدعم الحالي الذي تتجاوز كلفته 6 مليارات دولار إلى تمويل للسوق عبر تحرير جزء من ودائع المواطنين بشكل تدريجي، في حين يتم دعم العائلات الأكثر فقراً عبر برنامج البنك الدولي وإصدار بطاقات تموينية لمَن ليس لديه حساب في العملة الأجنبية ولم يستفِد من برنامج البنك الدولي.

تقوض تمويل السوق

وتخوّفت المصادر ذاتها من استمرار غياب السلطة عن ممارسة دورها، الأمر الذي سيفتح المجال أمام الاقتصاد الموازي بالتوسع، لا سيما أن حجم الكتلة النقدية لدى جمعية “القرض الحسن” ارتفع من 200 مليون دولار عام 2019 ليقترب حالياً من 600 مليون دولار.
وأكدت المصادر أن حاكم المصرف المركزي ناقش قضية جمعية “القرض الحسن” مع عون خلال الاجتماع الطارئ الذي عُقد بينهما على الرغم من صدور بيان نفى ذلك.  وأوضح سلامة لرئيس الجمهورية، وفق المصادر ذاتها، خطورة استمرار الجمعية بممارسة نشاطها المصرفي وهي لا تملك ترخيصاً رسمياً بذلك، الأمر الذي يتسبب أيضاً بإجهاض الآلية المقترحة من المركزي، كونها تشتري الدولار من السوق السوداء بأسعار تتجاوز المنصة، بالتالي تقوّض جهود تمويل السوق والاستقرار النقدي، إضافة الى التأثير السلبي في الاقتصاد نتيجة استجلاب عقوبات أميركية.

وكانت وزارة الخزانة الأميركية أعلنت الثلاثاء 11 مايو (أيار) الحالي، فرض عقوبات على سبعة لبنانيين بسبب علاقتهم مع “حزب الله” وشركته المالية “القرض الحسن”. وأضافت في بيان أن “شركة القرض الحسن تتنكّر كمنظمة غير حكومية تحت غطاء الترخيص الممنوح لها بذلك من وزارة الداخلية والبلديات، في حين تقدّم الدعم إلى حزب الله، مع ادخار العملة الصعبة التي يحتاج إليها الاقتصاد اللبناني بشدّة اليوم، بشكل يسمح للحزب ببناء قاعدة دعم خاصة به وتقويض استقرار الدولة اللبنانية”. وأضافت أن “الحزب ينقل الأموال بطريقة ووسائل غير مشروعة من خلال حسابات وهمية وميسِّرين، وهي عمليات تجعل من المؤسسات المالية اللبنانية عرضةً لعقوبات محتملة”.

حل وسط

في السياق، رأى رئيس “المعهد اللبناني لدراسات السوق” باتريك مارديني أن “حاكم مصرف لبنان يسعى من خلال هذه الآلية إلى إيجاد حلّ وسطي لقانون تقييد الرساميل (الكابيتال كونترول) الذي يُدرس حالياً في المجلس النيابي، وتقديم اقتراح في موضوع ترشيد الدعم من خلال تقسيط الودائع بمعدل يصل إلى سقف 25 ألف دولار لكل مودع في المرحلة الأولى”، موضحاً أن “هذا الطرح هو مبادرة وليس قراراً أطلقه المركزي، ويتطلب موافقة من مجلس النواب والمصارف”.
ورأى أن “هذا الاقتراح أفضل بكثير من استمرار الدعم العشوائي بالطريقة الحالية تحت عنوان دعم السلة الغذائية والمحروقات والأدوية”. وشدد على أن “هذه الخطوة مريحة للمودعين، بحيث سيحصل المواطن على الدولار النقدي من جديد”.
ووفق مارديني، “تأخرت الحكومة في مشروع البطاقة التمويلية، ولو أطلقت المشروع منذ عام لكنّا وفّرنا ست مليارات دولار صُرفت على الدعم”، معتبراً أن “الحكومة حوّلت الشعب اللبناني إلى طالب صدَقة بعد أن تسببت بإفقاره”، ومشككاً بجدية طرح مشروع البطاقة التمويلية. ورأى أن الحكومة “تناور للإبقاء على سياسة الدعم الحالية”، شارحاً أن “هذا الحل يعوّض معظم شعب اللبناني عن حقوقه وعن جزء من رفع الدعم. أما العائلات الأكثر فقراً، والتي لا تملك حسابات مصرفية، فبرنامج البنك الدولي في لبنان قادر على تلبية حاجاتهم. بالتالي، بين برنامج البنك الدولي ومبادرة المصرف المركزي، هذا الطرح هو البديل الأنسب لسياسة الدعم”.

العودة إلى “سيدر”

في المقابل، رأى الأستاذ المحاضر في كلية باريس للأعمال والدراسات العليا محيي الدين الشحيمي أن “الآلية المقترحة ومشروع المنصة، لن يجديا نفعاً في ضبط السوق المتفلتة”، معتبراً أن محورهما هو “استعمال القوانين لخدمة السوق السوداء”، ومتسائلاً عن آلية تمويل الاقتراح وطريقة ضخّ العملة في السوق وسط التقنين الذي تمارسه المصارف. وأكد أن “مفاعيلها على أرض الواقع لن تكون سوى إعلانية ولن تثمر أي حل فعلي لموضوع سعر الصرف، خصوصاً أن أصل المشكلة ما زال موجوداً، وهو فقدان الدولار”.
وكشف الشحيمي عن أن “مشروع منح ومساعدات مؤتمر المانحين الدوليين سيدر لم يُلغَ ولم يتوقف، وإعادة تفعيله مشروطة ببرامج إصلاحية”، مشدداً على أنه “بدل التلهّي بالمنصة، على السلطات اللبنانية الشروع بتأمين البيئة المناسبة للاستفادة من مقررات سيدر، التي سبق أن أعلنت الدولة اللبنانية التزامها بها عن طريق الشروع بالإصلاح وخطط التطوير العملي والتطهير المؤسساتي والإداري من الفساد والالتواءات المهنية وإضفاء الكم الكبير من الشفافية والصراحة المؤسساتية وضمان حسن سير المرافق العامة والمال العام بواقع رشيد”.

استرضاء الشارع

من ناحية ثانية، رأى المحامي عماد الخازن أنه “على الرغم من حسن نيّة حاكم المصرف المركزي ومحاولته إيجاد حلول على المدى المنظور لتأمين الحد الأدنى للمواطنين من ودائعهم، ستؤدي هذه الخطوات إلى أضرار ربما تفوق حجم الاستفادة منها”.
واعتبر الخازن أن البيان الصادر عن المصرف المركزي يبدو كأنه بيان سياسي يهدف إلى الدعوة لتشكيل حكومة جديدة، ومطالبة المجلس النيابي الإسراع بإقرار قانون تقييد الرساميل (كابيتال كونترول) لتغطية إجراءاته المالية، مبدياً تخوّفه من أن “يعترض المجلس على إقرار قانون كهذا غير شعبي كونه يحدد الحد الأقصى للسحوبات بـ25 ألف دولار في حين أن القوى السياسية تسعى إلى استرضاء الشارع لكسب الانتخابات المقبلة”.
وأشار الخازن إلى أن “هذه الإجراءات لن تستطيع السيطرة على تقلّبات السوق لناحية العرض والطلب لأن المصرف المركزي عاجز عن تأمين السيولة المطلوبة بالعملات الأجنبية”، مشدداً على أن “الطريقة الوحيدة الفاعلة هي التدخل عبر ضخ الدولارات لشراء الليرة اللبنانية المعروضة”، ومنتقداً “الإجراءات الحكومية السابقة عبر توقيف الصرافين والتهويل عليهم وإلزامهم سعراً محدداً، ما أدى إلى نتيجة عكسية عبر توقفهم عن تزويد السوق بالدولارات المطلوبة، فخفّ العرض وارتفع سعر الدولار بشكل خيالي”.