المبادرة الفرنسية انتهت يوم ولدت وماكرون كشف عن مصيرها منذ سبتمبر


أُعلن موتها في ذكرى موت نابليون

طوني فرنسيس إعلامي وكاتب ومحلل سياسي لبناني

تعثرت المبادرة الفرنسية في لبنان منذ لحظة إعلانها، وشهدت موتها الفعلي مع الزيارة التحذيرية الأخيرة للرئيس إيمانويل ماكرون إلى بيروت نهاية العام الماضي.
حرص الفرنسيون على إشراك كل قوى السلطة في دعم “حكومة اختصاصيين”، بما في ذلك “حزب الله”. وتلقوّا تحت وطأة هول جريمة تفجير مرفأ بيروت وعوداً قاطعة بالسير في مشروع الحكومة المقترحة، إلا أن الوعود سرعان ما تراجعت وتقزّمت، ولم يبقَ من المبادرة سوى لازمة يكررها المعنيون عن التمسك بالمقترح الفرنسي، لتغطية السير في طريق نقيض مؤداه عدم تشكيل أي حكومة .

عرف ماكرون مبكراً أن سعيه لإنقاذ لبنان، مهمة شبه مستحيلة. في زيارته الثانية إلى ذلك البلد خلال أقل من شهر (مطلع سبتمبر/أيلول الماضي)، قال الرئيس الفرنسي إن مساعيه هي بمثابة “الفرصة الأخيرة”. وفي تصريحات لصحيفة “بوليتيكو”، أوضح أنها “الفرصة الأخيرة لهذا النظام… أدركت أنني دخلت مقامرة محفوفة بالمخاطر… أضع على الطاولة الشيء الوحيد الذي أملك: رأسمالي السياسي”.

وتصدّر الرئيس الفرنسي الجهود الدولية من أجل لبنان. كان وحيداً في نقل انتقادات العالم للواقع السياسي الاقتصادي والمالي اللبناني، وتحويلها إلى خطة ملموسة قوامها مكافحة الفساد وإجراء إصلاحات أساسية في قطاعات مركزية كالكهرباء والمرفأ والبنى التحتية والحسابات المالية.
عملياً، لعب ماكرون دور المبعوث الدولي تجاه لبنان. كرر ملاحظات الاتحاد الأوروبي وأميركا والمجموعة العربية، ووعد أنه في حال تشكيل حكومة تلتزم إجراء الإصلاحات، سيكون جاهزاً لتنظيم مؤتمر دعم جديد للبنان بالتعاون مع الأمم المتحدة. غير أنه بعد مرور أقل من شهر على دخوله “المقامرة”، اكتشف أن الطبقة السياسية اللبنانية “قررت خيانة” تعهداتها. وفي لحظة تخلّى فيها عن تحفظاته، كشف ماكرون عن أن “لا حزب الله ولا حركة أمل يريد تسوية في البلاد”. (27 سبتمبر 2020)

مرّت أشهر ثلاثة على الزيارة الماكرونية الثانية قبل أن يُعقد مؤتمر الدعم المذكور في 2 ديسمبر (كانون الأول) 2020 في باريس. كان السفير مصطفى أديب اعتذر عن الاستمرار في مساعي تشكيل الحكومة، وتم تكليف الرئيس سعد الحريري المهمة. وفي الافتتاح، أيقن ماكرون أنه لم تتم الاستجابة لضغوطه وإغراءاته، وقال “لم يتم الوفاء بالتعهدات، وكل المؤشرات تدل على أنها كانت مجرد كلام”. وفي مارس (آذار) الماضي، وبعد أن ألغى زيارة ثالثة إلى بيروت بسبب إصابته بـكورونا (طريقة رسمية لتبرير الإلغاء)، اتخذ قرارات جديدة في ضوء المراوحة المستمرة، موضحاً أنه “خلال الأسابيع المقبلة وبطريقة واضحة ومن دون أدنى شك، نحتاج إلى تغيير النهج والأسلوب لأنه لا يمكننا أن نترك الشعب اللبناني يتخبط منذ شهر أغسطس (آب) الماضي في الوضع الحالي”.

بقية سيرة المبادرة الفرنسية توالت بسرعة. صعّد وزير الخارجية جان إيڤ لودريان تحذيراته بشأن مصير لبنان، وأعلن عن عقوبات ستُفرض على مسؤولين لبنانيين عن العرقلة، وفي النهاية جاء إلى بيروت في زيارة لم تكن ضرورية إلا في جانبها المتصل بلقاء مجموعات مشاركة في الاحتجاجات الشعبية. أما في ما عدا هذا اللقاء، فإن تكرار التحذيرات كان يمكن إطلاقه من باريس.

كانت الرحلة الفرنسية الأخيرة إلى بيروت بمثابة إعلان وفاة للمسعى الفرنسي، وللمفارقة صودف تزامن ذلك الإعلان مع احتفالات فرنسا بالمئوية الثانية لوفاة الإمبراطور نابليون وتذكير بمرور 222 عاماً على فشل حملته المشرقية أمام أسوار عكا، في مواجهة مع العثمانيين والإنجليز دفعة واحدة! (زيارة لودريان ووفاة نابليون وهزيمة عكا، كلها أحداث جرت في شهر مايو/أيار في مصادفة عجيبة).

توقّع كثيرون أن يؤول التحرك الفرنسي بشأن لبنان إلى النتيجة التي وصل إليها  .

فضمن الشروط المعلنة وغير المعلنة على لسان القوى السياسية، لن تقوم حكومة ذات مصداقية. هدف الشروط هو تشكيل حكومة تخدم المتنافسين على منصب رئيس الدولة العام المقبل وتبقي المواقع الرئيسة في يد “حزب الله” كما حصل في “انتخابات التعيين” الرئاسية الأخيرة، وتحمي القوى المتحكمة من إجراءات المحاسبة والتدقيق المالي ولا تمسّ بالقضية الأساسية، أي سيطرة “الحزب” على مفاصل الدولة وتفرّده في تحديد سياستها الخارجية ربطاً بولائه المطلق لإيران.
تلتقي مصالح التحالف المهيمن، ممثلاً خصوصاً بـ”حزب الله” ورئاسة الجمهورية، على منع قيام حكومة بالمواصفات الفرنسية، إذ إن “حكومة مهمة” كهذه ربما تسلبهما القدرة على التحكم في الانتخابات النيابية المقبلة، بالتالي في تحديد انتماء رئيس الجمهورية العتيد. ويُفترض أن تخفف هذه الحكومة من عبء تسلّط القوى الطائفية على الإدارة، وتفتح ملفات المال والفساد على مصراعيها، بما في ذلك التمويل الحزبي الآتي من الخارج، و”حزب الله” حالة نموذجية في هذا المضمار .

التقت مصالح قوى العرقلة الداخلية موضوعياً مع قوى العرقلة الخارجية وفي مقدمتها إيران، صاحبة التأثير الأكبر في لبنان لامتلاكها تنظيماً سياسياً دينياً مسلحاً يأتمر بأوامرها. ومنذ البداية، لم تكن طهران مرتاحة للتدخل الفرنسي في لبنان. أعلنت ذلك مراراً على لسان وزير خارجيتها وعدد من قادتها العسكريين وعبر صحفها. ومع أن باريس بدت حريصة على إحياء الاتفاق النووي، وسعت من أجل ذلك، إلا أن طهران لم تغفر لها دعوتها إلى ضم دول أخرى، بينها المملكة العربية السعودية، إلى المفاوضات التي انطلقت في فيينا. لم تجد طهران مصلحة لها في الاقتراح الفرنسي في وقت كانت تحتاج إلى تجميع كل الأوراق من أجل مساومة الأميركيين على رفع العقوبات المفروضة عليها.

استطراداً لم تسهّل إيران المهمة الفرنسية في لبنان وأبقت الأمور مجمدة فيه، في وقت دفعت أذرعها في العراق واليمن إلى تصعيد ملحوظ أملاً بكسب نقاط تفاوض تخدم موقفها .

وافتقدت السياسة الفرنسية دعماً أميركياً صريحاً، ومساهمة عربية فاعلة، فهي بالنسبة إلى الجانبين لم تضع “حزب الله” في موقع المسؤولية عن التردّي اللبناني، وتجاهلت تصنيفه كتنظيم إرهابي بالنسبة إلى الجانبين .

هكذا ماتت المبادرة الفرنسية في بلد يموت بسبب تفاهة سياسييه ومشاريعهم الصغيرة ورهاناتهم الشخصانية، وتكسب إيران، ولو مؤقتاً، ما ستعتبره انتصاراً لـ”محور المقاومة والممانعة”، وينتظر لبنان حصيلة انهيار بُناه في سقوط حر أين منه السقوط التائه للصاروخ الصيني.