فيصل جلّول
هذا النص المكثف فصل من كتاب “مصر بعيون الفرنسيس ـ بحث في أصول الثقافة السياسية العربية” الصادر عام 2007 عن دار مدبولي في القاهرة والدار العربية للعلوم في بيروت. ينشره بمناسبة مرور 200 عام على وفاة نابليون بونابرت.
يتناول الكتاب طرق وآليات تكوين الثقافة السياسية العربية انطلاقا من مصر، حيث لعبت فرنسا دورا مرجعيا في تأسيس الوعي السياسي المصري ومن خلاله الوعي السياسي العربي.
ويتوزع الكتاب على قسمين كبيرين الأول يتناول نظرة نقدية للثقافة السياسية العربية والثاني يتناول محطات تاريخية مصرية لعبت فرنسا فيها دورا حاسما وبخاصة حملة بونابرت على مصر وحريق القاهرة وحملة السويس 1956 وهزيمة حزيران 1967 وسيرة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كما رواها المؤرخ الفرنسي جان لا كوتير ومكسيم رودانسون .. وفي هذا القسم اعتمد الكاتب منهجا خاصا في التأليف إذ ترجم نصوصا فرنسية ونشر بمقابلها نصوصا نقدية مضادة ..
لماذا اجتاح نابليون بونابرت مصر؟
لماذا اجتاح نابليون بونابرت مصر؟ أمن أجل تحرير المصريين من المماليك كما يقول في بيانه الشهير الموجه للشعب المصري؟ أم من أجل تحضير(من حضارة) هذا البلد كما يقول آخرون؟ أم من أجل إقامة مستعمرة فيه بحسب كثيرين وبالتالي قطع طريق الهند على بريطانيا؟
ربما اجتاح مصر من أجل هذه الأسباب وغيرها. فالنقاش ما زال محتدما حول دوافع الحملة وأهدافها ونتائجها. بيد أن الخلاف السياسي حولها لا يشغل العرب والمصريين كثيرا فهم يتفقون عموما على كونها حملة استعمارية وبالتالي لا يقرون مع جان تولار (مؤرخ بونابرت الأشهر) ـ عندما يكتفي بالقول فقط! إنها (غريبة الأطوار) ويختلفون معه ومع غيره بشدة حول نتائجها. فالحداثيون العرب يميلون إلى النظر إليها من باب “رب ضارة نافعة” ويعتبرون أنها أيقظت الشرق من سباته وكانت سببا في طرح سؤال النهضة الأساسي: لماذا تقدم الغرب ولماذا تأخر المسلمون؟
في حين يرى الإسلاميون أن نتائج الحملة كانت وبالا على الأمة الإسلامية ويحصرون النظر في مقاتلها بخاصة المجازر التي ارتكبها بونابرت في الأعوام الثلاثة التي استغرقتها. فهل من متسع للنظر إليها بعين مختلفة؟
سنسعى لألقاء الضوء على وجوه الحملة المختلفة علنا نضيف إلى نص السيد جان تولار عنها عناصر ضرورية وإطارا يفصح عن الظروف التي تحكمت بهذا العدوان الذي شكل منعطفا حقيقيا في مصر والعالم العربي.
أراد بونابرت أن يثبت للمصريين أنهم ينتمون إلى حضارة خليقة بالهزيمة لأنها بالضبط تقع في مرتبة أدنى من الحضارة الغربية وأن هذه الحضارة إن هزمت بالسلاح فهزيمتها مؤقتة وغير نهائية وأن المطلوب هو النظر إلى المستقبل والبناء على صورتها وليس على صورة الحضارة العربية الإسلامية المتخلفة بالقياس إلى الحضارة الغربية.
كانت فرنسا عشية الحملة قد خرجت من عهد اليعاقبة الراديكالي الترهيبي بزعامة مكسيميليان روبسبيير وسادها نظام عرف باسم (مجلس المديرين أو الإدارة 1794) المؤلف من خمس مديرين يتولون الشؤون التنفيذية ويسقطون بالقرعة سنويا عضوية واحد منهم على أن يرشح النواب عضوا بديلا ويصادق الشيوخ عليه. في حين يتولى الشؤون التشريعية مجلس تمثيلي من خمسمائة نائب يقترح أعضاؤه التشريعات التي تحتاج إلى مصادقة مجلس من 250 شيخا عرفوا باسم “مجلس الكبار” وفيه كان يفترض أن يكون سن العضوية ما فوق الأربعين عاما.
هكذا كانت السلطات مفتتة في هذا العهد الذي دام حوالي خمس سنوات كان “مجلس الإدارة” يخشى خلالها من عودة الراديكاليين والمقصلة حينا وعودة الملكيين حينا آخر ما أدى إلى عدم استقرار في فرنسا على كل صعيد. (ألغى “المجلس” نتائج ثلاث انتخابات ناجحة لأنها كانت ستأتي بالملكيين إلى السلطة التشريعية)..
في أوروبا كانت الثورة الفرنسية ما زالت مهددة من طرف الملكيات التي تدعم حركات التمرد الدورية في هذا البلد ولاسيما التمرد الكاثوليكي في منطقة الفاندي شمال شرق فرنسا في حين كان الإنجليز يحاصرون مدينة تولون التي دانت لهم في أواخر عهد الترهيب.
وخارج أوروبا كانت الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية قد تلقت ضربة قاصمة في أمريكا الشمالية حيث خسرت خلال حرب أل 7 سنوات ( 1756 ـ 1763) كندا ولويزيانا ووادي أوهيو عموما وستخسر أوروبا كل مستعمراتها الأمريكية بعد نهاية تلك الحرب بسنوات قليلة مع حصول الولايات المتحدة على استقلالها. لذا كان على فرنسا بخاصة وعلى أوروبا عموما أن تتجه إلى استعمار مناطق جديدة تعويضا عن خسارتها الأمريكية.
في هذا الوقت كانت مناطق شبه القارة الهندية مسرحا للاستعمار البريطاني وموقع تنافس شديد بين الإمبراطوريات الأوروبية الشرهة ويشمل هذا التنافس بطبيعة الحال الطريق البحري من أوروبا إلى الهند وتحتل مصر عليه موقعا استراتيجيا.
وسط هذه الظروف المضطربة على الصعيدين الداخلي والخارجي ظهر نابليون بونابرت كمخلص لبلاده. كان ظهوره الأول في معركة تولون عام 1793 ضد الإنجليز حيث لعبت مدفعيته دورا كبيرا في استعادة المدينة وكان قد لعب دورا مهما في قمع مسيحيي الفاندي المتمردين ومن ثم في حماية نظام “الإدارة” من التمرد الملكي (5 أكتوبر ـ تشرين الأول عام 1795).
لن يقتصر دور بونابرت على حماية النظام من الخارج فقد ذهب إلى أبعد مما يريده “المجلس” الذي كان يرغب بحرب تخفف الضغط الخارجي عن الحكم. انتصر نابليون في حملته الإيطالية ووقع إتفاقية كامبو فورميو عام 1797 التي حيدت النمسا ووسعت حدود الجمهورية الفرنسية في منطقة نفوذ ملكية أساسية، حيث نشأت جمهوريات في المناطق التي اجتاحها بونابارت على حدود الراين وصارت تابعة للجمهورية الفرنسية. ولتقدير أبعاد هذا الانتصار لا بد من التذكير أن الجغرافية والحدود الطبيعية (أنهار ـ جبال ـ بحار ـ صحارى ) كانت حينذاك عنصرا حاسما في سياسات الدول الخارجية والداخلية. فضلا عن ذلك وفرت حملة ايطاليا الأموال اللازمة لنظام “الإدارة” المفلس.
بعد الحملة الإيطالية صار بونابرت زعيما وطنيا شعبيا في ((نظام غير شعبي)) على ما يؤكد بحق جان تولار. فما الذي يفعله بشعبيته وما الذي يفعله نظام الإدارة بجنرال تصعب السيطرة عليه. هنا التقت مصلحة الطرفين على احتلال مصر كمحطة للسيطرة على إمبراطورية الهند البريطانية ومجابهة بريطانيا (ما برحت تقود التحالف الأوروبي الدائم ضد الجمهورية الفرنسية) في الهند أي في معقلها الأبرز تمهيدا للانقضاض عليها في عقر دارها”… لن يطول الوقت ـ بحسب بونابرت في رسالة إلى مجلس الإدارة في 16 آب 1797 ـ حتى نكتشف أن تدمير بريطانيا يمر باحتلال مصر”، علما أن مشروع اجتياح مصر لم يكن جديدا فهو مطروح على طاولة الفرنسيين منذ انتهاء حرب السبع سنوات لا بل إن اقتراحا تقدمت به السلطات الفرنسية إلى الباب العالي من أجل شراء هذا البلد لكنه باء بالفشل.
غزوة السيف
اختار بونابرت اللحظة المناسبة لمباغتة الأسطول البريطاني المسيطر على البحر المتوسط والهرب منه. فقد كان يحكم بريطانيا في ذلك الحين رئيس الوزراء وليام بيت وهو حديث السن (37 عاما) والتجربة وكانت بلاده تعاني من الإفلاس ويقوم بحارتها بتمرد في بورتسموث منذ بعض الوقت في حين تعيش أيرلندا انتفاضة عاصفة بدعم فرنسي.
أما مصر فكانت خاضعة للمماليك الذين يحكمونها ظاهريا باسم الإمبراطورية العثمانية لكنهم عمليا سادة البلاد بلا منازع وكانوا يوفرون الحماية للبيوتات التجارية البريطانية اتقاء لشر البريطانيين وخوفا من سطوتهم في حين كانوا مرتاحي البال تجاه الفرنسيين حلفاء السلطنة الأمر الذي كان يتسبب بضرر أكيد للبيوتات التجارية الفرنسية وهي إلى جانب الإيطالية تمثل القسم الأكبر من التجار الأجانب في مصر وقد وفرت هذه البيوتات دعما جديا لحملة بونابرت على كل صعيد ولعل هذا ما يفسر حديث نابليون في مصر عن إهانة المماليك للتجار الفرنسيين والاعتداء على حقوقهم.
وإذا كان البريطانيون على علم بحملة عسكرية بقيادة بونابرت دون أن يعرفوا وجهتها بدقة فإن المماليك والعثمانيين لم تساورهم أية مخاوف في هذا الشأن ما يفسر سقوط مصر بسهولة (دامت معركة الهرم ساعتين فقط) ولعل مفاجأتهم ناجمة عن خبرتهم الطويلة في التحالف مع فرنسا منذ عهد الملك فرانسوا الأول واحترام باريس الصارم لقواعد التحالف. ولكن ما غاب عنهم هو أن “مجلس الإدارة” ارتفعت نشوته إلى السماء بعد الحملة الإيطالية وقرر تغيير قواعد اللعبة الدولية وإهمال التقاليد الدبلوماسية. ولو كان لليقظة حضور في أروقة السلطنة العليا ومماليك مصر لاكتشفوا دون عناء البحث المعمق أن الفرنسيين اجتاحوا حليفتهم سويسرا قبل الحملة مباشرة (بداية العام 1798) من أجل تغطية تكاليف غزو مصر وزرعوا جمهوريات صغيرة في إسبانيا وكانت حليفتهم أيضا فلماذا يحترمون تحالفهم مع السلطنة أكثر من احترامهم للتحالف مع جيرانهم.!! ولو كانوا على يقظة لأدركوا ـ أقله من خلال سفرائهم ـ أن فرنسا كانت تسعى منذ بعض الوقت إلى تغيير العالم على صورتها الجمهورية وتخوض حروبا لهذه الغاية.
تلك هي ظروف سقوط مصر السريع في قبضة بونابرت عام 1798 لكنه سقوط مؤقت ذلك أن الأميرال هوراتيو نيلسون سيدمر الأسطول الفرنسي( في أبي قير) بالقرب من الإسكندرية دون أن تصاب السفن البريطانية بخسائر جديرة بالذكر. ويسود اتفاق بين المؤرخين أن حملة مصر فشلت عسكريا ابتداء من تلك المعركة وأن ما حصل من بعد لا يعدو كونه تداعيات لكارثة أبو قير. فقد حاول بونابرت التعويض عن الفشل البحري بانتصارات برية. هاجم فلسطين وتراجع أمام أسوار عكا ووباء الطاعون الذي ضرب جيشه. صد من بعد حملة تركية مضادة في أبو قير وقهر الانتفاضات المصرية الدورية التي لم تتوقف طيلة سنوات الحملة الثلاث واضطر للهرب خفية من مصر تاركا قيادة جيشه للجنرال كليبير. لكن هذا الأخير سيقتل بخنجر الأزهري سليمان الحلبي ليخلفه الجنرال مينو الذي وقع استسلاما مهينا مع البريطانيين قضى بان تنقل البواخر البريطانية ما تبقى من حملة بونابرت إلى فرنسا لتكون الحصيلة هزيمة عسكرية فرنسية مجلجلة.لكن انتصار بونابرت الثقافي سيكون مدويا.
… وغزوة القلم
قبل بونابرت لم يسبق أن اجتاح فاتح عسكري بلدا أجنبيا بجيش من المثقفين الأمر الذي يطرح سؤالا كبيرا حول دوافعه الحقيقية. يعدد جان تولار بعض هذه الدوافع غير أن تلميذه أرنو كوانييه يضيف بعدا في غاية الأهمية، إذ يؤكد أن بونابرت برر الحملة المصرية باسم “الحضارة” للالتفاف على أنصار التنوير الفرنسيين الذين انتقدوا الكولونيالية ودافعوا عن حق الشعوب بتقرير مصيرها بنفسها.
ويرى كوانييه أنه منذ العام 1750 كان الغرب يعي تفوقه المادي الذي فسر بأنه يدين به للعقل وكان يعي تراجع الشرق الذي فسر بأنه ناجم عن الاستبداد ما يفقد الحضارات العثمانية والفارسية والصينية مصداقيتها وهي التي كانت تسحر الغربيين قديما وتبهرهم. كان الإيديولوجيون ومنهم فولني يسوغون الاحتلال باسم “الحضارة” التي تضبط العنف وتدرج حركة الاستعمار في مفهوم هرمي لمراحل التاريخ والعصور الجغرافية المختلفة.
بكلام آخر ضربت إيديولوجيا “الحضارة الغربية” المفهوم الحضاري السابق عليها لصالح تصنيف يتمحور حول مركزيتها فصار الاحتلال ليس فعلا عدوانيا بل عملا حضاريا. وعليه يتم تحضير الناس بالسيطرة عليهم تماما كما تحضر الحيوانات المتوحشة عبر السيطرة عليها. ولا يفعل مناصرو حملة بونابرت العرب سوى تأكيد هذه الصيرورة عندما يقارنون بين وحشية المماليك وتخلفهم وتنوير الفرنسيين وتفوقهم وبالتالي اختيار التنوير الوافد مع الغازي المتفوق على التخلف المقيم مع الأهل المهزومين. إذن حجة “النور” استخدمت في الانتصار والهزيمة العسكرية بحسب المفهوم الغربي وليس بقياس التقدم والتخلف المبني على الأخلاق والعقل.
إن اصطحاب جيش من المثقفين إلى مصر يندرج في هذا الإطار ويرمي إلى جعل المصريين يتلمسون التفوق الغربي العلمي أي استحالة انتصارهم على الغرب ليس لأنهم لا يملكون وسائل الانتصار وأدواته العسكرية المبنية على الإرادة والافتخار الحضاري، بل لأنهم لا يملكون المعرفة الغربية التي تجعل من التفوق المادي قدرا يصعب نفيه من جهة.
من سوء حظ المصرين وحظنا جميعا أن نابليون بونابرت لم يكن جنرالا فحسب بل كان عضوا في المجمع الفرنسي أيضا وهو قاريء روسو وفولتير وفلاسفة التنوير وصديقا للإيديولوجي الأهم في حينه فولني الذي أمضى 4 سنوات في مصر وسوريا ونشر رحلته الشهيرة عنها وكان بونابرت صديقا أيضا لـ “ماغيلون” أحد أبرز التجار العاملين في مصر
ومن جهة ثانية لماذا يموت المسلم في مقاومة بونابرت دفاعا عن حضارة متخلفة وأدنى مرتبة من الحضارة الغربية المنتصرة. هكذا بعد أن انتصر بونابرت على المماليك نظم عروضا علمية في القاهرة لكي يبرهن للقاهريين أن انتصاره على المماليك هو انتصار علمي في الأصل وليس عسكريا وبالتالي لا راد لهذا الانتصار، إنه قدري أبدي.
من كان مستعدا في أواخر القرن الثامن عشر لمواجهة هذا المنطق طالما أن أحدا لا يواجهه اليوم في عمقه فضلا عن إهمال مناهضي الحملة بالأمس كما اليوم الخلل في ميزان القوى المرتسم حينذاك. فسكان القاهرة البالغ عددهم 200 ألف نسمة كان عليهم مجابهة أكثر من 30 ألف جندي فرنسي ـ ما يعادل ربع سكان العاصمة تقريبا ـ مزودين بأحدث الأسلحة المعاصرة علما أن سكان مصر بأسرها لم يكن يتجاوز ألـ 3 ملايين نسمة.
في مصر أراد بونابرت أن يثبت للمصريين أنهم ينتمون إلى حضارة خليقة بالهزيمة لأنها بالضبط تقع في مرتبة أدنى من الحضارة الغربية وأن هذه الحضارة إن هزمت بالسلاح فهزيمتها مؤقتة وغير نهائية وأن المطلوب هو النظر إلى المستقبل والبناء على صورتها وليس على صورة الحضارة العربية الإسلامية المتخلفة بالقياس إلى الحضارة الغربية. يبقى أنه منذ الحملة شاع هذا المفهوم التحضيري كل فترة الاستعمار في العالم الثالث وذلك إلى حد بات معه من الصعب الانتباه إلى معنى اتخاذ بونابرت المتنور والديمقراطي قرارا باستئناف تجارة العبيد التي ألغتها الثورة الفرنسية في بداية انطلاقتها ناهيك عن مبادرته لإعادة الألقاب الملكية التي ألغتها الثورة وأشياء أخرى من هذا القبيل.
أما الوجه الآخر للحملة الثقافية على مصر فيكمن في تعزيز اعتداد الفرنسي بحضارته وببلاده وبجيشه وبعلمييه. فالمعرفة قوة حقيقية بالنسبة للفرنسي وللغربي عموما. بل هي أصل القوة. لذا اعتبر أن الإنجاز الأكبر للحملة هو كتاب “وصف مصر” وبخاصة فك رموز الهيروغليفية ناهيك عن الغنائم الأثرية التي حملها المحتلون معهم والتي مازالت تملأ المتاحف الفرنسية حتى اليوم. لقد كان كتاب “وصف مصر” في حينه أثرا معرفيا فرنسيا ذا أبعاد عالمية وهو ككل مقتنيات الحملة المعرفية كان يرفع من شأن فرنسا في موازين القوى المعرفية الأوروبية والدولية وهذا أمر في غاية الأهمية بالنسبة لبلد ظل طيلة قرون يلعب دورا أساسيا على المسرح الدولي.
يبقى الوجه الفرعوني للحملة وهو يبرز بوضوح هرمية أخرى محلية ما زالت آثارها ماثلة حتى اليوم، فالتركيز الفرنسي على الحضارة الفرعونية يريد القول أن الحضارة العربية الإسلامية عابرة في هذا البلد “الفرعوني أصلا” بنظر الثقافة المنبثقة عن الحملة والمستمرة حتى يومنا هذا. في المحصلة تبدو الحضارة العربية الإسلامية التي ينتمي إليها أهل مصر متخلفة وضئيلة بالقياس إلى حضارتين مجيدتين واحدة ساحقة في قدمها والثانية حديثة عقلانية ومنتصرة بتقنيات يبرهنها العقل.
إن القول بهزيمة نابليون بونابرت في مصر يصح في جانبه العسكري أما في الجانب الثقافي فقد حققت الحملة نصرا باهرا مازالت آثاره ماثلة حتى اليوم ليس في مصر وحدها بل في العالم العربي والإسلامي برمته.
قد يكون من سوء حظ المصرين وحظنا جميعا أن نابليون بونابرت لم يكن جنرالا فحسب بل كان عضوا في المجمع الفرنسي أيضا وهو قاريء روسو وفولتير وفلاسفة التنوير وصديقا للإيديولوجي الأهم في حينه فولني الذي أمضى 4 سنوات في مصر وسوريا ونشر رحلته الشهيرة عنها وكان بونابرت صديقا أيضا لـ “ماغيلون” أحد أبرز التجار العاملين في مصر والذين كانوا يمثلون مع الإيطاليين النسبة الأكبر من التجار الأجانب في هذا البلد وقد مولوا الحملة وشجعوا على قيامها.
لقد اجتمع السيف والقلم أصلا في قائد الحملة فلم يكن بد من أن تظهر على تلك الصورة وان تكون بلا جدال اجتياحا “علميا” وعسكريا في الآن معا أما آخر انتصاراتها فهي ماثلة إلى يومنا هذا في قاهرة المعز التي تهمل عمرانها العربي الإسلامي وتتنكر لمؤسسها بينما تنبت في أرجائها مومياءات فراعنة آلاف القرون المنصرمة….يا له من نصر مذهل !!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ هذا النص تلخيص مكثف لفصل من كتابي “مصر بعيون الفرنسيس ” الصادر عن مدبولي في مصر والدار العربية للعلوم في بيروت عام 2007 وقد استندت فيه الى المراجع الفرنسية التالية :
A – ARNAUD COIGNET « DE L’EXPEDITION à LA DESCRIPTION D’EGYPTE » WWW .MAIRIE – DIEPPE . FR
B – EXTRAIT DE LA CO RRESPONDANCE DU PREMIER CONSUL.
WWW.1789- 1815 .COM
C– BATAILLE DE PYRAMIDE
WWW.HERODOTE.FR
D—AMIRAL HENRI LABROUSSE: LA MER ROUGE ET L ’ EXPEDITION DE BONAPARTE EN EGYPTE.
WWW.STRATISC.ORG
E—NAPOLEON BONAPARTE
WWW.BRUNETTE. BRUCITY.BE
F—LES MAMELOUKS SOUS L’EMPIRE .
WWW .HISTOIRE.ORG
عربي ٢١