التكفير وادعاء تملك مفاتيح الجنة


لم يسكت المفكرون والكتاب والشعراء المحدثون والمعاصرون عن نقد الفكر الخرافي

أمين الزاوي كاتب ومفكر @aminzaoui1

من يا ترى سينقذ هذا المجتمع من مخالب الخرافة ذات الرؤوس المتعددة التي استوطنت مفاصل الحياة فيه؟ تلك معركة فكرية طويلة وعويصة لكنها ليست مستحيلة. من ينقذ هذا المواطن المسلم في البلدان العربية وفي شمال أفريقيا من الإسلام السياسي الذي صادر العقل، وأقام مكانه الولاء الأعمى لكمشة من المُتَدَرْوِشين؟ تلك معركة سياسية طويلة ومعقدة ولكنها ليست مستحيلة أيضاً. 

لم يسكت المفكرون والكتاب والشعراء المحدثون والمعاصرون عن نقد الفكر الخرافي الذي أدخل المواطن المؤمن في قمقم الجهل المقدس باسم الدين، فمن علي عبد الرازق وطه حسين والطاهر الحداد وقاسم أمين مروراً بحسين مروة وفرج فودة ومهدي عامل ونصر حامد أبو زيد وصادق جلال العظم ونوال السعداوي ومحمد عابد الجابري ومحمد شحرور وصولاً إلى المحدثين من إسلام البحيري وفاضل الربيعي وسعيد ناشيد ورشيد أيلال وسعيد جاب الخير وغيرهم…

لقد قدم العقل ضحاياه منذ مطلع القرن العشرين للدفاع على التنوير والتنوع وحق الاختلاف وحقوق الإنسان، تدل على ذلك تجارب مثقفين عرب ومغاربيين كثيرين عرفوا السجون والمحاكم والتضييق والنفي والاغتيال لا لشيء إلا لأنهم كانوا يؤمنون بفكر يدعو إلى إعمال العقل في قراءة قضايا المجتمع والفرد.

لكن الفكر المشوّه الذي تشكل في الخرافة والنقل وبالأساس في الدجل الديني ظل وبخبث سياسي هدام يستثمر في الغوغاء كعامل تخويف وضغط، إذ حوّل هذه الغوغاء إلى عيون الرقيب الذي لا ينام ولا يسهو، يتابع تفاصيل الحياة اليومية للفرد ويشن عليها ما لا يخطر على بال بمجرد أن تتخطى “مربع” القطيع.

إن الهجوم على المثقفين التنويريين من قبل الفكر الخرافي النقلي الماضوي باللجوء إلى الدهماء وتجييشها ناتج من الخوف من تحالف قد يقع بين حاكم متنور وهذه المجموعة التي تشتغل على العقل وبه لتخليص المجتمع من أمراض الشعبوية ودجل الدين السياسي.

لقد ازدهرت ثقافة التكفير بازدهار الإسلام السياسي وانتقلت في الفترة الأخيرة من العالم الإسلامي لتصل إلى أوروبا وأميركا، وقد أضحت ثقافة يومية تنغص حياة الجالية الإسلامية التي هي الأخرى أصبحت تنام وتصحو على الفتاوى وبالفتاوى خارج سياق منظومة القوانين الزمنية لمؤسسات الدولة القانونية والاجتماعية الغربية.   

من النادر جداً أن نجد سياسياً عربياً أو مغاربياً، خلال القرن العشرين، قد واجه فقهاء الظلام من موقع فكري وليس أمني أو عسكري، لأنه يعرف بأن قوتهم لا تكمن في علمهم ولا في محاوراتهم ولا في “فهوماتهم” ولكن في الدهماء التي ينفثون فيها سمومهم وقد حولوها إلى قنبلة قابلة للتفجير في وجه كل مختلف عنهم، ولذا نجد بأن كثيراً من الرؤساء والقادة الذين كانوا في صف التنوير قبل الوصول إلى سدة الحكم لكنهم بوصولهم إلى كرسي الرئاسة يتحولون وينقلبون على أفكارهم السابقة خوفاً من الغوغاء، بل ويعملون من أجل الاستثمار في فقهاء الظلام من أجل إبقاء العامة في الظلام ليستمر حبل سلطتهم.

يؤكد مؤرخو الأفكار بأن الفترة الأكثر ازدهاراً في تاريخ المسلمين على مدى 14 قرناً هي الفترة التي ساد فيها العقل، ممثلاً في فكر المعتزلة، في ظل حكم الخليفة العباسي المأمون.

أمام ما يجري من استثمار للجهل حيث يتم تعويم المجتمع بأيديولوجيا القرون الوسطى، حيث تضع مجموعة من المتدروشين يدها على الفتوى وعلى التشريع والقضاء ومفاصل الحياة الاجتماعية، -أمام ما يجري- وفي ظل مجتمع يغرق في الثقافة الشعبوية القاتلة والانتحارية باسم الدين وباسم الوطنية، إننا نحتاج إلى قائد متنور يهز هذا الإنحدار المرعب للقيم وللإنسان، وأعتقد أن نموذج الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة لا يزال المجتمع العربي والمغاربي بحاجة إليه، فهو الحاكم الذي أخرج تونس وهي بلد فقير من حيث الموارد الطبيعية الثمينة كالبترول الذي تغوص فيه أقدام الجزائر وليبيا حتى الرُّكَب، لتصبح دولة متوسطية وازنة وفاعلة ومؤثرة تتحقق فيها شروط الحياة القريبة من تلك التي تعيشها الدول الأوروبية.

إن الديمقراطية التي يدعو إليها البعض والتي يختصرونها في “الانتخابات” هي ديمقراطية “الفخ”، ديمقراطية الواجهة، إن مجتمعاً لا تدرس فيه حقوق الإنسان ولا يعرفها أصلاً، مجتمعاً لا يعترف بالحرية الفردية لأجيال متلاحقة لا يمكن أن تكون ديمقراطية “الصندوق” وحدها الحل. إن هذا المجتمع المعطوب يحتاج إلى مدرسة مدنية تقوم على تربية الأجيال تربية تضع الفرد في مركز العالم لا مركز القبيلة أو لسان حال الدروشة، ولا يمكن التأسيس لهذه المدرسة إلا بوجود قائد متبصر قادر على الدفاع بقناعة علمية ومنهجية واقتصادية عنها.

لقد اختلط الغث بالثمين في تراثنا الفقهي، ولا بد من صوت جديد ليعيد العقل إلى مكانه، لقد أصبح الإمام البخاري أكبر من الرسول عليه الصلاة السلام، وأصبح “الصحيح” أكبر من القرآن الكريم، واستبدل الناس الكتاب المقدس قائم على الوحي بكتاب بشري بما فيه من “اجتهاد” و”هفوات” و”قوة” و”ضعف” و”سياسة” و”حكمة” بديلاً، ومنه بدأوا يضعون قوانين القضاء ونصوص التكفير وفتاوى القتل وبيانات للجهاد.

في وضع فكري يختلط فيه عمل البشر مهما كانت مستوياتهم ومكانتهم بما هو قول الله، في وضع كهذا تصبح الخرافة أكبر من التاريخ، وفي وضع عقائدي وفكري وثقافي واقتصادي لا يمكن تحقيق أي تقدم للالتحاق بركب الأمم المتقدمة ما دام المجتمع يعيش ضحية الخرافة الجماعية بديلاً عن الدين الذي هو اختيار إيماني فردي وحر.   

لقد أصبح التلفيق أعظم من التمحيق والتدقيق.

سيجيئ جيل جديد وسيضحك منا، إذ كنا أو على الأقل نسبة كبيرة منا، تؤمن بأمور قريبة من الخبل، سيسخر منا أبناؤنا لأننا دفعنا بهم إلى ثقافة الكراهية والانتحار باسم التمسك بالماضي من دون تدقيق ولا تمحيص.

اليوم علينا وبكل جرأة فكرية وسياسية وحفاظاً على الدين بوصفه مسألة فردية روحانية بين الخالق والمخلوق وحماية لكرامة الإنسان المسلم القيام بتطهير مكتباتنا من كتب تراثية كثيرة تصب في تجييش الجهل وتكريس رفض فلسفة “العيش المشترك”، هذه الكتب التي لا تزال تطبع بالآلاف وتقرأ وتبرمج في المدارس والجامعات هي جعلتنا “أمة إرهاب” لا “أمة سلام” في عيون الآخر.

أعتقد بأنه علينا أن نراهن على ثلاثة عوامل أساسية للخروج من الأزمة وتحرير الإنسان العربي والأفريقي المسلم من الخوف المضروب عليه من قبل الدجل الفكري وهي: المدرسة المدنية والحركة النسوية والمؤسسة العسكرية الاحترافية.

إذا ما خلصنا المدرسة من هذا البؤس الفكري والمعرفي وأدخلناها في نسق القيم الإنسانية الكبرى التي تربطنا بالعالم، فتلك خطوة جبارة للنشء الصاعد، وإذا ما قامت المرأة بتحرير نفسها من فكرة “الشيء” أو “نصف صوت” فإن المجتمع سيعرف توازناً سيكولوجياً واجتماعياً وهي الحالة التي يعول عليها في خوض معركة التنمية والتقدم.  

وإذا ما شكلنا مؤسسة عسكرية معاصرة مهنية تحمي البلد وتحمي المواطن قبل المؤمن، فإننا نكون قد وضعنا البلد على سكة الإقلاع في تحول إيجابي يمكنه لاحقاً أن يفسح المجال لجو سياسي صحي ولبوادر الديمقراطية التي لا تختزل في الصندوق بل في الإنسان القادر على الاختيار والقادر على الدفاع عن العقل ومصلحة الوطن قبل وهم مصلحة السماء.