“مشروع 2030” أتى بموجة إصلاحات عميقة والتطورات في السعودية لها تأثير كبير في المنطقة والعالم
وليد فارس الأمين العام للمجموعة الأطلسية النيابية @WalidPhares
كان لمقابلات وتصريحات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الأخيرة حول خيارات المملكة العربية السعودية، وقع قوي على متابعي ملفات الشرق الأوسط في الغرب، وبخاصة على متابعي العلاقات السعودية- الأميركية في واشنطن، لما جاء في هذه المواقف من دلائل على المراحل الآتية في السنوات، لا بل العقود الآتية، ومن أهم الملفات التي لفتت انتباه أصحاب الرأي والقرار دولياً هي التموقع السعودي الاستراتيجي المتطور، والاتجاهات الاقتصادية الجديدة، وربما الأعمق، هو الفلسفة السياسية التغييرية وراء تلك المحاور، ما قد يشكل انقلاباً إيجابياً على مكامن الاستضعاف في الماضي، وربما ثورة في السياسات الداخلية والخارجية، فلنحاول تلخيصها بشكل تحليلي.
جذور التغيير
بالمناسبة، عليّ أن أكشف شخصياً أنني تعرفت على المشروع السعودي الجديد قبل غيري من الأميركيين خلال الحملة الرئاسية في صيف 2016، حيث يتعرف مستشارو المرشحين الرئيسيين على ملفات السياسة الخارجية من حكومات وقيادات الدول في العالم، وكانت لي الفرصة كمستشار دونالد ترمب، كما كانت الفرصة نفسها لمستشاري هيلاري كلينتون، أن نستمع لشرح القيادة السعودية لـ “مشروع 2030” الهائل الذي لم يكن معروفاً بعد بوضوح في واشنطن، إلا أنني كمتابع للنقاش في المنطقة، وداخل المملكة، أدركت حجم الطرح، لا سيما بعد أن شرحه لنا وزراء أذكياء، يتقنون العرض العلمي، منذ وقتها، أدركت أن السعودية مقبلة على تغييرات جذرية جارفة ولكن هادئة، وكنت في كتاب لي صدر قبل ما يسمى بـ “الربيع العربي”، تحت عنوان “الثورة الآتية”، قد تنبأت بإصلاح تغييري كبير سيحل في المنطقة، ولكن لكل دولة طريقتها، بعضها سينجح وبعضها سيفشل، بعضها من القاعدة إلى القمة، وبعضها الآخر سيبدأ من القمة ويتعمم تدريجاً في أرجاء الدولة، وهو النموذج السعودي بقيادة الأمير محمد بن سلمان، ما كنت على اطلاع عليه منذ انتشار وسائل التواصل الاجتماعي في الشرق الأوسط بعد عام 2000، كان توق المجتمعات إلى تغيير سلمي نحو الازدهار والحرية والاعتدال.
ولكن ما كنت أجهله حتى عام 2016، كان وجود قيادة إصلاحية جادة، حازمة، وملتزمة بإجراء التغيير الهادئ في قلب السعودية، وقد فاجأتني هذه الشخصيات بـ “رؤية 2030” إلى حدّ حاولت شرحها للحملة، وجزئياً إلى الإعلام، وقد حُسمت قراءتي للرؤية عندما رأيتها تتنفذ في أرض الواقع في مايو (أيار)، 2017 عبر قمة الرياض التاريخية التي ألقى فيها الرئيس دونالد ترمب خطابه الشهير بدعوة من الملك سلمان وبتنظيم الأمير محمد بن سلمان. ما فهمته باكراً قبل كثيرين من الأميركيين، وأعاد تأكيده الأمير محمد بن سلمان أن السعودية تغيرت، تقدمت وصممت أن تصمد في التحول الجديد، فما هي ركائز التموقع الحاصل، الذي سيكون له تأثير كبير في المنطقة، عالمياً، وفي الولايات المتحدة أيضاً؟
الإصلاح الإداري
“مشروع 2030” أتى بموجة إصلاحات عميقة في الإدارات السعودية لتصحيح الثغرات الكبرى التي كانت منتشرة في بيروقراطيات الحكومات السابقة، كما شرح الأمير محمد بن سلمان في مقابلاته، إذ إنه على الرغم من وجود سيولة كبرى في البلاد بسبب مدخول النفط، وميزانيات بتصرف الحكومات السابقة، إلا أن الأجهزة الإدارية لم تكن قادرة على التنفيذ الكامل والسريع، على الرغم من وجود التمويل، فجاءت “رؤية 2030” لتعصف في الإدارات، بدأً بحملة مكافحة الفساد في القطاعين الخاص والعام، وإعادة تركيب الجهاز الإداري بما يتناسب مع العصرنة والأداء الحسن، وهذا بدأ ظهوره منذ بداية 2016، وكان أحد أسباب الإخفاقات الإدارية، تراخياً تنظيمياً لدى البيروقراطيين والعاملين في الحقل الإداري، بفعل غزارة المدخول المالي من الثروة البترولية السعودية، لكن “منطق 2030” رفض الاسترخاء والاستسلام للثراء النفطي في تأمين أمور الدولة، ما جلب اهتمام الخبراء في علم الإدارة.
إصلاح اقتصادي
ما هو أبعد من الإصلاح الإداري هو الإصلاح الاقتصادي، وهو السبب الأساسي لإعادة التموقع السعودي على كل الأصعدة الباقية، فالمعادلة الأميركية والدولية التقليدية السابقة، التي استمرت لعقود، تمحورت حول مركزية النفط في الاقتصاد السعودي، لا بل أحاديته في عصب الإنتاج القومي، بالطبع النفط كان قوة السعودية القصوى خلال القرن الـ20، مما أخّر تطور القطاعات الأخرى، وكان “النفط الفياض” أساس الاقتصاد، وأحياناً كان سلاحاً إقليمياً ودولياً كما في أزمة “أوبك” في 1973، إلا أن الأمير محمد بن سلمان وفريقه قرروا أن يغيروا هذا الاتجاه، لتطوير الاقتصاد القومي عبر التنوع وتعدد قطاعات الإنتاج، إذ إن “رؤية 2030” تريد الاستفادة من النفط لتمويل وتطوير القطاعات الأخرى، ومنها الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات، وحتى السياحة، مما أيضاً فاجأ الغرب، فالقيادة السعودية تعمل على بناء دفاعات اقتصادية قومية متنوعة، لتحمي اقتصاد البلاد، إذا أصيب النفط، إما بسبب التكنولوجيا، أو لأسباب جيوسياسية، وتراقب الأوساط المالية العالمية بشغف التغيير الاستراتيجي الاقتصادي في السعودية، وهو في مراحله الأولى.
التغيير الجيوسياسي
من أهم ما صدم الحلقات الدبلوماسية والسياسية والإعلامية في الغرب، كان ولا يزال إعادة التموضع الاستراتيجي السعودي، الناتج من “رؤية 2030” أساساً، وهو مبدأ التثبت بالدفاع القومي السعودي، وإقامة التحالف العربي، ومواجهة إيران والتكفيريين، مع أن المملكة تصدت لإيران منذ سنوات، وهي كانت مستهدفة من قبل نظام الملالي لعقود، إلا أن الاستراتيجية الجديدة اعتمدت المواجهة على جبهات عدة، واعتماد الصيغ التحالفية على النمط الغربي، فقام تحالف للتصدي للحوثيين في اليمن شاركت فيه دول عدة، وشاركت المملكة مع شريكاتها العربية في التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش” في “الهلال الخصيب”، ومن بين الملفات الأساسية في سياسة المملكة المتجددة على صعيد الأمن القومي، مواجهة إعلامية وعقائدية شاملة مع التكفيريين، و”الإسلامويين المتطرفين” ومشتقاتهم.
فذهبت الرياض تحت سقف “2030” إلى حيث لم تذهب أية حكومة سعودية سابقة، فاقتلعت النفوذ التكفيري من جذوره المؤسساتية، تمهيداً لفك ارتباطه المجتمعي مما صدم الخارج، أكان معسكر أصدقاء المملكة أو أخصامها. أما أكبر تقدم أنجزته القيادة الشابة، فكان إخراج النفوذ الإخواني من البلاد، بعد عقود من اختراق عميق واستعمال من قبل جماعاتهم لخيرات ومقدرات السعودية ضد مصالحها ومصالح وأمن الدول العربية والغرب، فخلال نصف عقد، تحولت المملكة إلى قوة إقليمية تنطلق من أمنها القومي إلى تحالفاتها الاستراتيجية، وبخاصة مع مصر والإمارات، ولكن هذه الانجازات التي قادها الأمير محمد بن سلمان تحت مظلة الملك سلمان، لم تكن لتكون بهذا القدر والعمق، لو لم يكن وراءها دعم مجتمعي وشعبي واسع.
الإصلاحات الداخلية
هذا يدخلنا في تقييم أخطر وأدق الإصلاحات، وهي تلك المتعلقة بالشأن الروحي، والثقافي، والمجتمعي. فنصف العقد الذي مضى، شهد تغييرات لم يظن أحد في الغرب، وبخاصة الولايات المتحدة، أنها قد تحدث في هذا القرن، ولكن ولي العهد ذهب إلى حيث لم يجرؤ الآخرون، بدأً بقرارات تنفيذية ترخي معظم القيود الضيقة داخل المجتمع، وتلجم الحلقات الراديكالية، وأهم القرارات وأكثرها تأثيراً في الغرب، تحرير المرأة السعودية بما لم يكن منتظراً في الخارج.
بتحريره المرأة، وتمكين المجتمع من الانفتاح، وإطلاق التحديث بموازاة التحرر، سجل الأمير محمد بن سلمان أهم الانتصارات، ألا وهي رفع السعودية إلى درجة تقدم لا تزال تتطور، في وقت تعود إيران وتركيا مثلاً، إلى الوراء بعد أن كانتا على مستوى عال من التقدم، والأهم في إصلاحات الـ “2030” أنها تحصل على دعم اجتماعي وشعبي متزايد.
ببساطة، السعوديون العاديون لا يمكنهم إلا أن يقبلوا بهذه الفرص لتحسين أوضاعهم والتنعم بالتقدم، وهذا هو في النهاية عصب الرؤية الإصلاحية التي تقود المملكة من نجاح إلى آخر.
النتائج على الصعيد الأميركي
إن الوثبة التي حققتها السعودية في نصف العقد الماضي نقلت هذه الدولة من دولة نفطية، إلى دولة قومية تعبر جسر الإصلاحات تدريجاً إلى العالم المستقر والمتقدم، وإذ تقود الرياض الـ “G20” والتحالف العربي، وتواجه الإرهاب، بدأت صورتها تتغير لدى الرأي العام الأميركي والغربي لتصل إلى درجة التناغم الحضاري بين الغرب واليابان وكوريا الجنوبية وإسرائيل والبرازيل وغيرها. وليس عدم معارضة المملكة “لمعاهدة إبراهيم” بل تشجيعها لكل الأطراف المؤيدة للسلام أن تتقدم باتجاه السلم والاستقرار، إلا إقناعاً للعالم والولايات المتحدة، بأن المملكة العربية السعودية باتت ليست فقط منتجة نفطية، بل شريكة حضارية وتاريخية في بناء عالم حر جديد.
إن الرأي العام الأميركي، وبغض النظر عن مشكلاته المتعددة والمتزايدة، يرى التقدم في المملكة تدريجياً، فكلما قرأ خبراً آتياً من السعودية في السنوات الخمس الماضية، كان خبراً Good News وتقريراً مشجعاً عن بلاد الحرمين، فإذا اقتنع الشعب الأميركي بأن ما يجري في المملكة هو لمصلحة السلام، فإن العلاقة بين أميركا والسعودية باتت عميقة الجذور، أياً كانت سياسات الإدارة.
المقالة تعبر عن راي كاتبها
اندبندنت