قبل أربعة اعوام، في آذار عام ٢٠١٧، نشرت منظمة الإسكوا التابعة للأمم المتحدة تقريراً اتهم اسرائيل بممارسة نظام فصل عنصري أو ما يُدعى بالأبرتهايد ضد الفلسطينيين. وبعد نشره بيومين، طالبت الأمم المتحدة والولايات المتحدة رسمياً بسحبه، وتعرضت آنذاك الأمينة التنفيذية للإسكوا الدكتورة ريما خلف لضغوط من الأمين العام للأمم المتحدة من أجل سحب التقرير. اعتبرت الدكتورة خلف ذلك تدخلاً سياسياً في تقرير بحثي، اعتمد على معطيات قانونية أعدها خبراء دوليون مرموقون، وقدمت على إثره استقالتها إلى الأمين العام للمنظمة الأممية.
إن اتهام أي دولة في العالم بتطبيق نظام فصل عنصري أمر في غاية الخطورة لما يترتب عليه من تبعات قانونية وعقوبات دولية تستوجبها القوانين الأممية، كما تقتضيها الاعتبارات الانسانية والحقوقية. ولذلك، من الطبيعي أن تقف الولايات المتحدة، كما العديد من دول العالم وبخاصة الغربية منها، ضد مثل هذا التوصيف لإسرائيل.
ومنذ بداية العملية السلمية في مدريد واعتماد إطار أوسلو كمرجعية للمفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية، وجد المجتمع الدولي ذريعة ملائمة لتجاهل، ليس فقط انتهاكات اسرائيل للقوانين الدولية واحتلالها غير المشروع للأراضي الفلسطينية، وانما تطبيقها نظامين قانونيين منفصلين داخل الأراضي التي تسيطر عليها—واحد يطبق على الاسرائيليين اليهود، والآخر يطبق على الفلسطينيين، أولئك الذين تحت الاحتلال الاسرائيلي، كما أولئك الفلسطينيين العرب الذين يحملون الجنسية الاسرائيلية—و هو التعريف القانوني لنظام الفصل العنصري “الابرتهايد”. وكانت حجة المجتمع الدولي غير المعلنة أن مثل هذه الانتهاكات ستصبح غير ذات معنى متى تحقق حل الدولتين، ونشأت الدولة الفلسطينية المستقلة وأُنجز الانفصال بين الفلسطينيين والاسرائيليين.
لكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن. فبعد حوالى ثلاثين عاماً على إطار أوسلو، أصبح حل الدولتين أقرب الى المستحيل، وتعمّقت الانتهاكات الاسرائيلية، وزاد عدد المستوطنين في الضفة الغربية والقدس الشرقية من مائتين وخمسين ألفاً الى أكثر من سبعمائة ألف مستوطن إسرائيلي، وأقرت اسرائيل قانوناً للقومية اليهودية يجعل سكانها من العرب، مواطنين من الدرجة الثانية قانونياً، وليس فعلياً فحسب. وقد أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في العديد من المناسبات عدم نيته الانسحاب من الاراضي الفلسطينية المحتلة، أو القبول بإقامه دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة، بل عمل بشكل وثيق مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، على ضم المزيد من الأراضي المحتلة بغطاء أميركي وقتل حل الدولتين الذي ينادي به المجتمع الدولي.
من جانبه، تشبث جيل أوسلو الفلسطيني بحل الدولتين، لأنه من وجهة نظره يُحقق الدولة الفلسطينية، وينهي الاحتلال الاسرائيلي، ويسمح بتطور المؤسسات الفلسطينية وتطوير الهوية الفلسطينية المستقلة. إلا أن التركيز على شكل الحل من المجتمع الدولي، بدلاً من موضوع الحقوق، أدى الى الوضع الحالي، إذ بات العديد من أبناء وبنات الجيل الجديد الفلسطيني، الذي ولد معظمهم بعد اتفاقية اوسلو، لا يهمهم دولة دون حقوق، بعدما أصبح واضحاً أن الدولة لا تضمن الحقوق إن بقيت شكلاً دون مضمون، لا في فلسطين ولا في غيرها، بينما سيؤدي تحقيق الحقوق الى اقامة دولة ديمقراطية على أسس متينة.
ان كانت الشمس الحقوقية قد تم تغطيتها بغربال سياسي دولي، تشير المعطيات الحالية ان هذا الغربال ما عاد قادرا على منع منظمات حقوقية وبحثية دولية اليوم من الوصول الى استنتاج صارخ بأن ما تقوم به اسرائيل ليس ممارسات فردية أو منعزلة تنتهك حقوق الانسان هنا وهناك، بل هو جزء من منظومة اسرائيلية عنصرية. كما أن هذه الممارسات، من هدم للبيوت واقامة المستوطنات وتشريع مبني على أسس عرقية وادامة الاحتلال لأكثر من نصف قرن وغيرها، هي جزء من نظام فصل عنصري حسب التعريف القانوني لمثل هذا النظام السياسي.
وقد صدرت خلال الأشهر الماضية، تقارير حقوقية وبحثية عديدة من منظمات دولية تقع في صلب المشهد الدولي. فقد نشرت أكبر منظمة اسرائيلية لحقوق الانسان داخل اسرائيل “بيتسيلم”، تقريراً في شهر كانون الثاني (يناير) من هذا العام يقول إن ما تمارسه اسرائيل من سيادة يهودية على الأراضي من النهر الى البحر هو الابرتهايد بعينه. ثم تبع ذلك تقرير مركز كارنيغي في العشرين من شهر نيسان (أبريل) الماضي، وهو من أهم وأحد أعرق مراكز البحث في الولايات المتحدة، يطالب الادارة الاميركية باعتماد مقاربة تعتمد على الحقوق المتساوية للفلسطينيين والإسرائيليين، ويصف أيضاً الممارسة الاسرائيلية داخل الأراضي التي تسيطر بأنها تُماثل نظام فصل عنصري. ومؤخراً، صدر تقرير منظمة “هيومن رايتس واتش” – وهي من أكبر منظمات حقوق الانسان الدولية – لتؤكد هي الأخرى أن اسرائيل تمارس نظام فصل عنصري بكل ما في الكلمة من معنى.
نشهد اليوم بداية تكوين كتلة حرجة، أممية وحقوقية وبحثية، تنعت السياسة الإسرائيلية بالعنصرية. وهي كتلة لم تعد تقتصر على منظمات تُتهم بالتعصب في بعض الأحيان، ولكن من منظمات معروفة دولياً وتتمتع بمصداقية عالية. وفي حين لم يجد هذا التوصيف طريقه بعد للمجال السياسي، فما من شك أن ذلك سيتحقق بوتيرة متزايدة من الآن فصاعداً.
نعيش اليوم في زمن باتت المجتمعات فيه تُولي قدرا أكبر من الاهتمام لموضوع الحقوق المتساوية وعدم جواز الاضطهاد المؤسسي بأي شكل من الاشكال. وما حادثة قتل المواطن الأميركي الأسود فلويد جورج على يد شرطي أبيض في ولاية مينسوتا وما أحدثته من ردود فعل قوية من المجتمعين الأميركي والدولي، إلا دليلاً اضافياً على أن المجتمع الدولي في طريقه لإيلاء موضوع الحقوق أهمية متزايدة.
من هنا تكمن أهمية التركيز على الحقوق الفلسطينية وعلى مقاومة النهج العنصري الاسرائيلي، وذلك بالتوازي مع دفع المسار السياسي لتحقيق الفلسطينيين لتطلعاتهم الوطنية. لا بد من التأكيد هنا أن اعتماد المسار الحقوقي ليس بديلاً عن المسار السياسي، وهو يتماشى مع أي شكل للحل، سواء كان حلاً معتمداً على أساس الدولتين أو الدولة الواحدة. إنه ببساطة ادراك بأن المسار السياسي الذي لا يرتكز على الحقوق لن يؤدي الى تحقيق تطلعات الفلسطينيين لدولة مستقلة ذات سيادة كاملة، لا يقل وعاؤها الحقوقي والانساني أهمية عن شكلها السياسي.(كارنيغي)