إلى أين تتجه سوريا؟


المتغيرات الدولية تفرض غموضاً يحيط بمصير البلاد وسط معاناة الشعب لفترة قد تطول

محمد بدر الدين زايد دبلوماسي أسبق وأكاديمي

شهدت الأزمة السورية تطورات مهمة خلال الأسابيع الأخيرة، أبرزها صدور بيان “أميركي – بريطاني – ألماني – فرنسي – إيطالي” مشترك في شأن الانتخابات السورية المزمعة هذا العام، وتضمّن البيان الغربي تشكيك في نزاهة وحرية هذه الانتخابات المرتقبة، وأن أي نتائج تصدر عنها بالتالي لا ينبغي أن تغيّر إجراءات التعامل مع النظام السوري. كما تضمّن البيان تمسك الدول الغربية بالحل السلمي على أساس قرار مجلس الأمن رقم (2254)، وسعيها إلى محاسبة المسؤولين عن الجرائم الأكثر خطورة ومواصلة دعم لجنة دولية لتقصي الحقائق ودعم جهود مبعوث الأمم المتحدة “غير بيدرسون”. ودعا البيان إلى تسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق التي تحتاجها، كما دعا النظام إلى الانخراط في العملية السياسية. وكي نفهم هذه التطورات المهمة وماذا أضافت إلى الأزمة، نحتاج إلى استعراض مجمل المشهد السوري.

جمود الموقف العسكري

نتذكر أنه بعد التدخل الروسي الجوي الكثيف، وانهيار التنظيمات المتطرفة التي كانت فرضت سيطرتها على أغلب أراضي البلاد، إذ لم يكن النظام وحلفاؤه يسيطرون على أكثر من 15 في المئة من الأراضي السورية، أدى هذا إلى تراجع سيطرة هذه التنظيمات وهي بالأساس “داعش” وجبهة النصرة المرتبطة بتنظيم القاعدة، فانسحبت فلول هذه العناصر إلى شمال غربي سوريا، حيث تقع محافظة إدلب القريبة من الحدود التركية، وفي الوقت نفسه نجحت القوات الكردية ممثلةً بقوات سوريا الديمقراطية (قسد) بدعم الغطاء الجوي والخبراء الأميركيين والغربيين، في شل “داعش” في شمال شرقي البلاد.
وبعد هذه التطورات، أدارت روسيا عملية سياسية استضافتها العاصمة الكازاخية آستانة، التي سنعود إليها لاحقاً، وما يعنينا هنا، هو أن الفراغ السياسي تحول في أعوام 2016 (نهاية ولاية أوباما) و2017 و2018 إلى مباراة إدارة صراع وهدنة سنعود إليها أيضاً، ثم دار الموقف العسكري مجدداً حول بؤرتين، الأولى إدلب حيث تحركت روسيا والجيش السوري وحلفاؤه الإيرانيون و”حزب الله” لاستكمال القضاء على التنظيمات المتطرفة والسيطرة على المنطقة، فقادت تركيا حملةً سياسيةً ضخمة، مدعومةً بتحركات عسكرية محدودة في البداية تحت عنوان حماية 3 ملايين من المدنيين السوريين في إدلب، وأن هناك تداخلاً سكانياً مع المعارضة السورية أو الثوار السوريين أو الميليشيات المتطرفة بحسب كل منظور. ومع تصاعد هذه الحملة السياسية والإعلامية التي قادتها تركيا بمهارة وبدعم غربي ضمني حيناً وصريح في حين آخر، تمكنت أنقرة من التوصل مع موسكو إلى هدنة وترتيبات سُميت “ترتيبات إدلب”، وكانت تقتضي إرساء هدنة عسكرية، وقيام تركيا بنزع الأسلحة الثقيلة من الميليشيات وفصل التنظيمات المتطرفة عن تلك المتشددة خلال فترة زمنية معينة. وبالطبع انتهت هذه المهلة الزمنية من دون التزام تركيا بهذه التعهدات، بل أكثر من ذلك، حوّلت محافظة إدلب إلى “مخزن إدارة التطرف” إقليمياً، وهو أمر أكدته الممارسة التركية، حيث استُخدم هذا “الاحتياطي القتالي” في جبهتين لخدمة الدور التركي في ليبيا، وبعد ذلك في ناغورنو قره باغ في النزاع الأرميني – الأذربيجاني.

وعلى مدى ما يقرب من عامين وحتى الآن، تعرضت هذه الجبهة لبعض الاضطرابات والحركة سواء بتحركات للجيش السوري وحلفائه أو بقصف روسي لمواقع الميليشيات، كانت تقابلها تحركات عسكرية تركية ومزيد من نشر قواتها وبناء قواعد عسكرية، لينتهي الأمر الآن إلى ما يشبه الوضع المستقر للوجود العسكري التركي نتيجة أنه في كل مرة كان يحدث تصعيد عسكري كان يتم التحرك السياسي والدبلوماسي بين موسكو وأنقرة لاحتواء الوضع، ما أدى إلى ترسيخ نوع من الجمود حتى لو كان قائماً على توازنات سياسية وعسكرية هشة، والدليل على ذلك أنه كي تتم الاستجابة للضغوط الدولية والإقليمية لتسوية الأزمة الليبية، فإن أحد عناصر ذلك إعادة المرتزقة والميليشيات السورية إلى مقرها في إدلب.
أما البؤرة الثانية فتتمثل في جبهة شمال شرقي سوريا، التي كانت تحت سيطرة المتمردين الأكراد أو الجبهة الديمقراطية، وبمظلة جوية وعسكرية من قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) وقرابة 10 قواعد عسكرية أغلبها أميركي، وعندما قرر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب سحبها، دفع هذا تركيا للتحرك عسكرياً في هذه الجبهة خشية الانتهاء بدولة كردية ومن دون اكتراث للحماية الأميركية لهذه الميليشيات الكردية التي استعانت بها واشنطن أساساً لمواجهة “داعش”، وبمقتضاها أعلنت واشنطن النصر في هذه المعركة وتبرير الانسحاب من سوريا، رغماً عن إرادة حلفائها الأطلسيين أو الأكراد. واختلطت الأوراق مرة أخرى وحدثت بعض المواجهات العسكرية بين تركيا والأكراد، انتهت بتفاهمات بدورها بحيث أبطأت واشنطن وتيرة سحب قواتها، وعلى الرغم من محدوديتها ولكنها تشكل عازلاً و”فيتو” على اقتراب روسيا أو تركيا من محاولة السيطرة على هذه المنطقة، كما تبقّى لها دور في إدارة الصراع، وعموماً انتهت التفاعلات إلى نوع من الوجود التركي في هذه المنطقة، إضافة لنظيره الأميركي – الأطلسي. ثم جاءت إدارة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن أخيراً لتضيف نشر منظومة صاروخية جديدة تكرس بها وجودها العسكري، وأن مسألة إعادة سيطرة النظام السوري وحلفائه على كل الأراضي السورية مؤجلة حالياً حتى إشعار آخر، وهو ما يعني أيضاً تجميد البؤرة الثانية خارج السيطرة السورية وحلفائها. يعقّد ذلك، تواتر حديث عن عودة فلول “داعش” للتجمع، وربما بدعم غربي أو تركي لتبرير استمرار التدخل الأميركي في هذه المناطق.

جمود عمليات التسوية السياسية

وكانت العملية السياسية التي قادها مبعوثو الأمم المتحدة منذ نشوب الأزمة في سوريا تدور في دوائر مغلقة نتيجة عوامل عدة، أبرزها أن مَن كانوا يتفاوضون من ناشطين أو معارضة مدنية لا يمثلون قوة حقيقية في ميدان الصراع العسكري، خصوصاً بعد أن علا صوت تنظيمات وميليشيات الإسلام السياسي، بخاصة الأكثر تطرفاً مثل “داعش” و”القاعدة”، وثانيها انقسام المعارضة وظهور ما يسمى بمنصاتها المختلفة. وانتهى منطق كل هذا تدريجاً بعد التدخل الروسي العسكري الحاسم لتنزوي هذه المحاولات بشكل تدريجي، ثم تأخذ شكلاً آخر في ما عُرف بالمسار الدستوري.
وفي الحقيقة، هناك سبب أكثر أهمية لإرباك جهود التسوية تمثل في إنشاء روسيا لما سُمي بـ”عملية آستانة” بين دول التدخل العسكري الرئيسة؛ أي روسيا وإيران وتركيا، وقدمتها موسكو في البداية، وكأنها عملية لتسوية الأزمة السياسية، وكانت في الحقيقة عملية لإدارة الصراع وترتيباته، ومنع التصعيد العسكري والسياسي بين دول احتلال سوريا الثلاث. وبعد ذلك بقليل لجأت موسكو إلى التركيز على اتصالاتها بتركيا لإدارة الصراع وتهميش طهران بعض الشيء من دون استبعادها تماماً، وليتراجع الحديث تدريجاً عن هذا الإطار من دون التخلص منه تماماً. في الوقت ذاته، يواصل المبعوث الأممي بيدرسون تحركاته غير المؤثرة في إدارة الأزمة أو في التوصل إلى تسوية سياسية حقيقية.

مستقبل غامض

مما سبق تأتي أهمية البيان الغربي من كونه “فيتو” على تسوية لا يشارك فيها الغرب، كما يتضح استبعاد أي تسوية سياسية ممكنة في ظل مشهد عسكري لا يستطيع أي من أطراف الصراع حسمه، كما يتعدد فيه اللاعبون الدوليون والإقليميون وكذلك القوى الكبرى، بما لا يتيح لأحد التمتع بهامش تأثير محايد أو من القوة بحيث يستطيع أن يفرض تسوية أممية مقبولة، ويمكّن من بناء أفق سياسي حقيقي عليها.

وفي ظل أوضاع دولية وإقليمية تتسم بالسيولة والتحولات السريعة وعدم التبلور، تحاول أغلب الأطراف الفاعلة كسب مراكز قوة ومزايا خلال هذه المراحل الانتقالية. كما تصعب هذه التسوية أيضاً في ظل وجود نظام حكم لا يريد أن يطوي صفحة صعبة من تاريخ بلاده، ويعنيه البقاء وتسجيل النصر بأكثر من إعادة الإعمار والاستقرار، ليصب كل هذا في النهاية في غموض مصير محاولات إعادة سوريا إلى مسارها الطبيعي، وليُرجّح استمرار معاناة شعبها لفترة قد لا تكون قصيرة.