نشعر حين نتأمل المشهد الروائي العربي والمغاربي اليوم أننا أمام ظاهرة تاريخية أدبية متوحشة وغريبة
أمين الزاوي كاتب ومفكر @aminzaoui1
التفكير في راهن الأدب والأدباء، وبالأساس الرواية والروائيين، في الفضاء العربي والمغاربي مثير للجدل والاستغراب أيضاً.
نحن، بالفعل، أمام واقع أدبي سردي يدعو للتساؤل والمراجعة والتأمل.
سيل جارف من الروايات تقذف بها يومياً دور نشر صغيرة أو كبيرة وبعضها تأسس أصلاً لمُودَة الرواية، لا حديث إلا حديث الرواية أو عن الرواية أو عن الروائيين وعن جوائز الرواية التي ظهرت في كل بلد؟
ما الذي حدث يا ترى؟
قد تكون الكثرة أو الوفرة إيجابية إذا ما تميزت بالإضافة المُفَكَّر فيها وبالتجريب المتنوع والمغامرة الأسلوبية الجديدة والمراجعات النقدية الفاعلة، لكن أن تكون “الكثرة” بالحساب وتعدد رؤوس “القطيع”، وهذا هو الحاصل عندنا، فتلك حالة أدبية وثقافية مَرَضِيَّة ومعطوبة.
صحيح أن فرنسا، على سبيل المثال، تصدر من الروايات سنوياً ما يفوق ما تصدره دور النشر العربية والمغاربية مجتمعة، لكن ما يصدر في فرنسا هو تقليد أدبي عريق تطلبه الساحة الثقافية والفنية والإعلامية والاقتصادية، فالرواية تعود على عجلة الاقتصاد الفرنسي بأرباح هائلة، فهي استثمار اقتصادي حقيقي ومنتج، فقرّاء الرواية يُعدّون بالملايين وبعض العناوين يبيع مئات الآلاف من النسخ، بخاصة تلك التي تتوّج بجوائز معروفة كـ “الغونكور” أو “فيمينا” أو الأكاديمية الفرنسية أو القراء وغيرها، وهذا الإنتاج الروائي على كثرته لا يمرّ بصمت أو سلام، بل يخضع لمتابعة إعلامية وجامعية فاعلة ومغربلة، وهو إنتاج يفرز كل سنة أسماء جديدة لها خصوصياتها وإضافاتها في الفلسفة الجمالية للكتابة السردية، وهي كتابات روائية يتم الاستثمار فيها في السينما وفي المسرح والموسيقى والرقص والفن التشكيلي وغيره.
أما الكثرة الروائية في بلاد العرب وشمال أفريقيا، فقد أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه شعرياً منذ عقدين أو أكثر، وهي الكثرة التي دفعت بشاعر كبير كمحمود درويش أن يصرخ عالياً وبكثير من الحرقة والألم الفني والثقافي، قائلاً، “أنقذونا من هذا الشعر”، هل يمكننا اليوم أن نستعير من محمود درويش هذه العبارة لتوصيف حال الرواية بالقول “أنقذونا من هذه الرواية؟”.
هل النبوءة التي أعلنها الناقد الكبير الدكتور جابر عصفور قبل عقدين تقريباً بقوله، “الرواية ديوان العرب” المعاصر نبوءة انتهت مبكراً، وإن هذا الديوان الجديد ما هو إلا “الحمل الكاذب”، فالرواية لم تصبح ديوان العرب بل “ديوان سجل وفيات” الكتابة السردية والنثرية بشكل أوسع، فإذا كان العرب قديماً قد وضع الشعر في مرتبة “الدين”، إذ كان يُقرأ في الصلاة على الميت، فإن الرواية، وعلى الرغم من سنوات مجدها القصيرة قد بدأت تثير اشمئزاز القارئ نظراً إلى اختلاط الحابل بالنابل فيها.
يجب أن يعرف القارئ أن الهوس بالرواية قد أوصل كثيراً من “الكتبة” إلى دفع مال من جيوبهم لنشر رواياتهم، فيسحب الناشر أو على الأصح “المطبعجي” بعض 100 نسخة يحملها الكاتب إلى بيته ليتوسّدها، ثم ينتهي حلمه هنا.
في الجزائر مثلاً، وهذا الأمر يحدث في كثير من الدول العربية والمغاربية، يضطر البعض من الكتّاب الشباب إلى بيع هواتفهم النقالة الذكية أو النصف ذكية لدفع مقابل نشر نصوصهم التي تنتهي بإغلاق أبواب المعرض الدولي للكتاب.
يحصل هذا اليوم أيضاً، بأن يصرّح بعض “الكتبة” وبكثير من التبجح والمباهاة بأنهم كتبوا رواية أو أكثر من رواية حتى قبل أن يقرأوا رواية واحدة! هو استهتار واضح ومن دون قناع، وبعض مثل هذه التصريحات موجود في حوارات منشورة على صفحات الجرائد والمجلات.
مرات أتساءل: هل الكاتب يقرأ ما يكتبه؟ هل البقرة تشرب من ضرعها؟ أعتقد لو أن الكاتب تذوّق مما يكتبه لما عاد إلى الكتابة ثانية، أو تأنّى كثيراً قبل أن ينشر ما كتبه، أو لو أنه قرأ نصوصاً عالمية، لما “تهوّر” في مثل هذه التجربة، لكن الكاتب اليوم لا يشرب لا حليبه ولا حليب غيره.
قد يقول قائل: من حق الكاتب أن يحلم ومن حقه أن يجرّب، وهذا أمر في غاية الصحة، لكن لخوض أية تجربة في الكتابة هناك الحد الأدنى من العدة التي يجب أن تتوافر لمثل ذلك، وأولها “القراءة” وثانيها “القراءة” وثالثتها “القراءة”.
الديمقراطية القاتلة للأدب
لقد تميزت وسائل التواصل الاجتماعي التكنولوجية الجديدة التي أغرقت العالم بأن أعطت الفرصة للجميع لكتابة ما يرغبون به وبالتساوي، وعلى المنصة ذاتها، والوقت ذاته، والمساحة ذاتها، والجهاز ذاته، والشبكة ذاتها، وهو ما أخلط الحقل الثقافي والأدبي، وأنتج ظواهر ونتوءات غريبة في الكتابة مفهوماً وممارسة، وفي مفهوم الكاتب منتجاً للقيم الفكرية والجمالية.
ولعل ما أخلط الأوراق كثيراً على مستوى الكتابة الروائية ويجعل “البقرة لا تشرب لا من حليبها ولا من حليب غيرها” هو اختفاء صوت الناقد القادر على فرز الجيد من الرديء، وسط عجيج الغوغاء من “المعلقين” الذين صادروا “الوضوح” وعمّموا العيش في الماء العكر.
لقد اختفت المنابر الإعلامية المحترمة والمرجعية من صحف ومجلات، كان لها كتّابها من النقاد الذين يُنتظر رأيهم في هذا العمل الروائي أو ذاك، وهو رأي يُستأنس به من قبل القراء في القراءة، ويستمع إليه الكاتب في مراجعة مساره، أي يرضع من حليبه! وأصبح كل واحد بما يملكه من مواقع إلكترونية أو بمنصات التواصل الاجتماعي، يكتب ما عنّ له ويتكلم ويفتي في الأدب ويُصنّف ويُنصف ويُجزي ويُجازي ويَجزر ويُجيز ولا من رقيب ولا من فرامل.
إن الجامعة، أيضاً، التي كانت العقل النقدي الهادئ والمنفتح على الحياة الإبداعية والإعلامية بشكل واضح ومتميز وإيجابي في سنوات السبعينات والثمانينات، تعرّضت لغزو أيديولوجي كبير أصيبت جراءه “الإنتليجنسيا” الجامعية بالتراجع، وأصبح صوتها بارداً، وغير مؤثر، وغير موجّه، وغير مسموع، والمجلات الجامعية الكثيرة جداً عدداً التي تصدر في الجامعات لم يعُد أي أحد يقرأها وما عادت تنفع لا الأديب ولا القارئ، بل تنفع فقط الأستاذ كاتب المقال لأنها تسمح له بالترقية المهنية من درجة إلى درجة أو من رتبة تربوية إلى أخرى أعلى.
حين نتأمل المشهد الروائي العربي والمغاربي اليوم نشعر أننا أمام ظاهرة تاريخية أدبية متوحشة وغريبة: لقد أصبح الروائيون أكثر عدداً من القراء! فهل يحق لنا أن نقول: أنقذونا من هذه الرواية؟