ماذا بعد؟

د. مروان المعشر

“العبور بالوطن الى شط الأمان مسؤولية الجميع”

فيما يترقب الأردن بأكمله وجهة القضاء في قضية سمو الأمير حمزة بن الحسين، لا شك في أن هذه القضية فتحت الباب أمام مصراعيه حول أسلوب ادارة الدولة لمواردها ومؤسساتها.

وفي حين كان المطالبون بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي يُنعتون من قبل قوى الوضع القائم بالنخب البعيدة عن هموم الشارع الأردني وأولوياته، أصبح واضحاً أن الشارع أول من يطالب بالإصلاح. كما تبدو أغلبية تلك القوى اليوم إما بعيدة عن هموم الشارع ومطالبه، أو تُحاول اللحاق بركب من يدعون للإصلاح، لإدراكها الآن صعوبة الاستمرار في إدارة الأمور بالشكل الحالي. باختصار، أصبحت الحلقة المطالبة بضرورة إحداث تغييرات جذرية في أسلوب الإدارة الحكومية أوسع بكثير وتضم في ركابها مختلف مكونات المجتمع الأردني.

وقد آلم الاردنيين جميعاً، بغض النظر عن اختلافاتهم السياسية والعقائدية والفكرية، الكم الهائل من المقالات العالمية التي طالت مكانة الأردن بشكل كبير، فوطننا يستحق أفضل من هذا، وصورتنا الخارجية التي تعرضت لمثل هذا النوع من التهميش بحاجة لعمل جاد دؤوب يتعدى بيانات الولاء الشكلية ومحاولات تغيير الصورة التي رسمتها تلك المقالات، ويسعى بصدق الى تلبية تطلعات الشعب بعيش حر كريم عبر تنفيذ الإصلاحات المطلوبة والارتقاء بمستوى معيشة المواطن والنهوض بنوعية الخدمات المقدمة. الأردنيون – بمن فيهم أشد المعارضين لسياسات الدولة – لا يختلفون على قيادة جلالة الملك عبد الله بن الحسين، والرهان يبقى على الإصلاح، لا النظام، والفرق واضح لمن أراد إليه سبيلاً. فالمطالبة بإصلاح حقيقي متدرج يشمل كافة النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والادارية لا يتعارض مع توافق الشعب على قيادته أو ينتقص من هيبته، لا بل العكس.

لن أتطرق هنا لتفاصيل الاصلاحات المطلوبة، فقد قُتلت بحثاً وأشبعها العديد من الخطط التي أعدت سابقاً، والمقالات التي كُتبت، والمحاضرات التي ألقيت من العديد ممن يغارون على مستقبل البلاد، والتي لو أخذ بها في حينه لما آلت الأمور إلى ما عليه الآن. ومن جملة تلك المبادرات، الأوراق النقاشية التي أطلقها جلالة الملك بعد الاحتجاجات التي شهدتها المنطقة عامي 2011 و2012 والتي رسمت اطاراً واضحاً لمستقبل مدني ديمقراطي تعددي حداثي لا يختلف عليه اثنان، مبني على أساس تكافؤ الفرص ويهدف إلى بناء التوافق وتعزيز التشاركية بين كافة مكونات المجتمع من رجال ونساء، محافظين وليبراليين، مسلمين ومسيحيين، ومن شتى المنابت والأصول.

نعم، نحن بحاجة اليوم لعقد اجتماعي جديد، يُعزز الرابطة الدستورية بين الحاكم وشعبه ويؤكد منظومة الحكم التي يتفق الأردنيون عليها جميعاً، والتي خدمت الأردن والأردنيين عبر مائة عام من مسيرة الدولة. نعم، نحن اليوم في أمس الحاجة لعقد اجتماعي جديد يعمل على اعادة الثقة المتبادلة بين المواطن والدولة وبنائها من جديد على أسس واضحة. وقد يقتضي ذلك تعديلات دستورية للإفساح في المجال أمام إصلاح بنيوي يعمل على مأسسة الإصلاحات المرجوة بحيث تصبح جزءاً من منظومة الحكم واستراتيجياته العابرة للحكومات.

المطلوب اليوم هو تحقيق التوافق بين كافة مكونات المجتمع الأردني على شكل الاصلاح الذي نريد، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وتربوياً. هل نريد دولة سلطوية أم مدنية؟ هل نريد نظاماً ريعياً أم انتاجياً أم مختلطاً؟ هل نريد مساواة تشريعية فعلية بين كافة مكونات المجتمع ام أن هناك خصوصيات لبعضها؟ لقد حاول البعض تصوير معوِّقات الاصلاح بأنها ناتجة عن عدم قدرة مكونات المجتمع على الاتفاق في ما بينها على الأطر المستقبلية التي ستحدد معالم الأردن في مئويته الثانية. هذا ليس صحيحاً. فالاختلاف في الآراء يُمثّل جوهر الإصلاح والأداة التي تجعل من الحلول التوافقية أمراً يُمكننا من المضي إلى الأمام. الاختلاف في الرأي ليس شكلاً لانعدام الولاء كما يصوره البعض، وليس مصيره الفشل. فقد اجتمع الأردنيون بمختلف مكوناتهم الاجتماعية مراراً وتمكنوا من تحديد المعالم العامة للدولة الأردنية.
وليس الميثاق الوطني الأردني إلا مثالاً صارخاً على عقد اجتماعي حسم أموراً كانت في غاية الحساسية. كيف لا وقد أكد الميثاق على “الحفاظ على الصفة المدنية والديمقراطية للدولة، واعتبار أي محاولة لإلغاء هذه الصفة او تعطيلها باطلة من أساسها، لأنها تشكل تعدياً على الدستور وانتهاكاً لمبدأ التعددية ومفهومها”. كما جاء في الميثاق أن “الأردنيين رجالاً ونساءً أمام القانون سواء”، وأن “التعددية السياسية والحزبية والفكرية هي السبيل لتأصيل الديمقراطية وتحقيق مشاركة الشعب الأردني في ادارة شؤون الدولة، وهي ضمان للوحدة الوطنية وبناء المجتمع المدني المتوازن”.

ما هذه إلا أمثلة على ما استطاع الاردنيون والاردنيات التوافق عليه برغم حساسية المواضيع التي تم التطرق اليها، ومن يقول عكس ذلك، يُجافي التاريخ والحقيقة.

لا تكمن المشكلة في غياب الخطط التفصيلية الاصلاحية، ولا تكمن أيضاً في الادعاء بأن مكونات الشعب الأردني لا تستطيع الاتفاق على شكل الإصلاح الذي تريد أو أنها غير جاهزة لمثل هذا التغيير. تكمن المعضلة الحقيقية في أذرع السلطة التنفيذية نفسها التي لم تستطع حتى اليوم الاتفاق على نهج موحد يقود البلاد لمستقبل آمن. فلو اتفقت هذه الأذرع على مسار واحد، لكان أضعف الايمان ترجمة الأوراق النقاشية الى خطط عمل حتى دون تحقيق مبدأ التشاركية مع المجتمع.

نحن اليوم أمام تحد كبير قوامه أن أذرع السلطة التنفيذية مختلفة حول الاصلاح، يُنادي بعضها بضرورة المضي قدماً بإصلاحات لها كلفة، انما أقل بكثير من البقاء في وضعها الحالي، بينما يدعي أغلبها بأن كلفة الاصلاح أعلى من قدرة الأردن على تحمله. وفيما يُعد الاختلاف في الرأي بين مكونات المجتمع دليلاً على نضجه وقدرته ورغبته على التطوير والتنمية والمشاركة، فإن تضارب التوجهات بين أذرع السلطة التنفيذية هو قمة الخلل ودليل سوء إدارة الأزمات التي تعصف بنا.

إن كُنا نبحث عن معوقات للإصلاح، فهذا هو المعوق الأكبر، وهو ما يتطلب وعلى وجه السرعة توحيد الصف في ما بين أذرع السلطة التنفيذية وإطلاق حوار وطني جاد يتضمن كافة القوى، بما فيها تلك التي ترى في التغيير ضرراً على الأردن أكبر من الاضرار التي لم يعد يقدر أحد على إنكارها.

نعم، لنتفق في ما بيننا، ولكن لتتفق أذرع السلطة التنفيذية في ما بينها كذلك، ولنخلق من أزمتنا الحالية فرصة قد لا تتكرر للمضي قدماً.

كارنيغي للشرق الاوسط