صدام الاستراتيجيات… من واشنطن إلى موسكو مرورا ببكين


خطورة حالة السيولة الجيواستراتيجية الآنية هي عند بلوغها حافة الانهيار وساعتها سوف يغرق القارب ولن يتمكن أحد من النجاة

إميل أمين كاتب وباحث @amen_emile

على مشارف العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، يبدو العالم أمام مرحلة من الصدامات الواضحة للعيان بين القوى القطبية الكبرى، ما هو قائم منها، وما هو مقبل، مواجهات استراتيجية تبدأ من عند الولايات المتحدة الأميركية، القطب الذي يعتبر الأكبر والأهم حتى الساعة عبر قارات الأرض الست، وصولاً إلى روسيا الاتحادية التي نفضت عنها تراب وفوضى انهيار الاتحاد السوفياتي، وها هي تستيقظ كالعملاق مرة جديدة، وقد استطاعت بالفعل اكتساب مربعات نفوذ من أميركا معتمدة على أخطاء استراتيجية ارتكبتها واشنطن خلال العقدين الماضيين.

أما على البعد، فتبدو الصين التي خرجت من تحت عباءة ماو الشيوعية، ومضت في طريق رأسمالية الدولة، القوة الضاربة المقبلة، والبداية من عند التفوق الاقتصادي، وإزاحة الولايات المتحدة عن الصدارة، وعادة في تاريخ نشوء وارتقاء الإمبراطوريات، تبدأ القفزة اقتصادية، ثم تتحول إلى عسكرية، وهو ما يجري على الصين في حاضرات أيامنا.

يمكن القطع إذن بأننا أمام صدام الأقوياء على الأرض، حيث تتقاطع الاستراتيجيات، وتتشابك الأهداف، بل وتتناحر الآليات، كل يسعى إلى تعظيم مكاسبه وتقليص خسائره على حساب الآخر، فهل يعني ذلك أن العالم مقبل على حقبة جديدة من الصدام وعلى آليات مغايرة غير الحروب العسكرية المباشرة، أم أن هناك فرصاً بعد للتعاون والتعايش، لا سيما في مواجهة التحديات التي تعجز عن مواجهتها قوة واحدة مهما يكن من شأن نفوذها وإمكانياتها، كما رأى العالم في مواجهة جائحة انتشار فيروس كوفيد- 19 المستجد.

القرن الأميركي… استراتيجية وملامح عامة

ما الخطوط الرئيسة الحاكمة لتوجهات الولايات المتحدة الأميركية في القرن الحادي والعشرين؟

فكرة القرن الأميركي، بلورها تيار المحافظين الجدد في نهاية تسعينيات القرن العشرين، وتقتضي بغير تطويل ممل أو اختصار مخل، صبغ العالم برمته بصبغة أميركية، وأن تكون اليد الطولى شرقاً وغرباً، براً وبحراً، سماء وفضاء للجانب الأميركي، وهذا كان يستوجب قطع الطريق على الدب القائم من الرماد كما العنقاء، والتنين المجنح الذي يجوب البحار والمحيطات ناسجاً خيوطه، وباسطاً خطوطه لإحكام سيطرته على كل ما حوله ومن حوله.

على أن تلك الاستراتيجية التي مثلت الخطوط العريضة لتوجهات واشنطن، جرت بلورتها عام 2010، فيما عرف وقتها برؤية الاستدارة نحو آسيا، وقد رسخ في عقل صانع القرار الأميركي الجمعي، أن مستقبل الجغرافيا السياسية للولايات المتحدة الأميركية سوف يتقرر في آسيا، وليس في أفغانستان أو العراق، وعلى هذا الأساس يجب أن تكون الولايات المتحدة هناك في قلب الحدث… كيف ذلك؟

المحيط الهادي وتقاطع الاستراتيجيات

تكتب هيلاري كلينتون التي كانت في ذلك الوقت تشغل منصب وزير الخارجية، عبر مجلة “فورين بوليسي” الشهيرة، عدد نوفمبر (تشرين الثاني) 2011 وتحت عنوان “أميركا وعصر المحيط الهادي”، تقول: “لقد أصبحت منطقة آسيا والمحيط الهادي محركاً أساسياً للسياسة العالمية، تمتد من شبه القارة الهندية إلى شواطئ الأميركيتين وتضم محيطين، الهادي والهندي، اللذين يتعزز الترابط بينهما أكثر فأكثر من خلال الشحن والاستراتيجية، يعيش فيهما نحو نصف سكان العالم، وتضم عدداً كبيراً من المحركات الأساسية للاقتصاد العالمي.”

كانت الرحلة الأولى لكلينتون إلى آسيا، وقد قامت بسبع زيارات مكنتها من التعرف على العوامل الجيوسياسية والاقتصادية التي يمكنها أن تجعل من التصادم الأميركي مع القوى الآسيوية أمراً واجب الوجود.

 لكن الأهم هو أن تلك الزيارات سلطت الضوء على حجم التداخل الوثيق بين مستقبل الولايات المتحدة ومستقبل منطقة آسيا والمحيط الهادي، وقد خلصت الوزيرة الأميركية إلى استراتيجية تأخذ في الاعتبار على الدوام التحولات السريعة والدراماتيكية الحاصلة في آسيا وتتكيف معها، وتستند إلى ست ركائز أساسية للتحرك تتمثل فيما يلي:

– تعزيز التحالفات الأمنية الثنائية.

– تعميق علاقات العمل مع القوى الناشئة بما في ذلك الصين.

– الانخراط مع مؤسسات إقليمية متعددة الأطراف.

– توسيع التجارة والاستثمارات.

– بناء وجود عسكري ذي قاعدة واسعة وترويج الديمقراطية وحقوق الإنسان.

أميركا وعوامل الصدام العسكرية

قبل أن تنتهي المئة يوم الأولى من ولاية جوزيف بايدن، بدا وكأن واشنطن مقبلة بالفعل على مواجهة على نحو أو آخر مع الصين وروسيا، ولهذا قام وزيرا الدفاع والخارجية الأميركيان، بجولة في آسيا، بدأت باليابان، وسلطت الأضواء على عناصر المواجهة ونقاط الاشتباك المستقبلية في المحيط الهادي وما وراءه.

قبل بضعة أيام وفي مقر منظمة حلف شمال الأطلسي ببروكسل، استعرض وزير الخارجية الأميركي بلينكن ما سماه ثلاث فئات من التهديدات الأكثر إلحاحاً بالنسبة للولايات المتحدة، وهي خليط من العوامل الجيوسياسة والاقتصادية، والتي يمكن أن تدفع واشنطن إلى التصادم مع القوى الآسيوية الصاعدة.

الأول: يتصل بالناحية العسكرية، والمثير أننا نرى التركيز هذه المرة على الصين أكثر من روسيا الاتحادية، حيث ترى واشنطن قلاقل مقبلة من جهود الصين الرامية لتهديد حرية الملاحة، وعسكرة بحر الصين الجنوبي، واستهداف البلدان في أنحاء منطقة المحيطين الهندي والهادي بقدرات عسكرية متطورة بشكل متزايد.

بلينكن لم يتناول في واقع الأمر عدة أمور تقنية بشكل مدقق ومحقق، وإن كان الأمر لا يغيب عن أعين مجمع الاستخبارات الأميركية، ونعني هنا رغبة الصين في بناء حائط صواريخ نووي خلال السنوات العشر المقبلة، يبلغ نحو عشرة آلاف رأس نووية، ما يعني أن ميزان التوازن النووي سيميل إلى الصين.

روسيا بدورها لم تكن بعيدة عن مجال التهديدات وإمكانيات الصدام مع الولايات المتحدة الأميركية بحسب بلينكن، إذ يرى أن القدرات والاستراتيجيات العسكرية الجديدة التي طورتها روسيا لتحدي التحالفات الأميركية، وتقويض النظام القائم على القواعد الذي يضمن أمن الناتو، تهديد مباشر، ويشمل ذلك ما يراه أعمالاً عدوانية لموسكو في شرق أوكرانيا، وحشد القوات والمناورات واسعة النطاق وأعمال التخويف في بحر البلطيق والبحر الأسود وشرق البحر الأبيض المتوسط ومناطق أقصى الشمال، وتحديث القدرات النووية، واستخدامها الأسلحة الكيماوية ضد منتقديها على أراضي دول حلف الناتو.

والمؤكد أن ما أدخلته موسكو على ترسانتها النووية، وبخاصة الأسلحة فرط الصوتية، والصواريخ ذات الرؤوس النووية المتعددة، وعلى الرغم من تمديد معاهدة الأسلحة النووية، أخيراً، إلا أن العلاقات من واشنطن إلى موسكو باتت على صفيح ساخن.

مواجهات اقتصادية تزعج واشنطن

أما التهديد الثاني، الذي يراه بلينكن مقبلاً من الشرق الآسيوي، فيتمثل في المتغيرات الاقتصادية، لا سيما بعد الخسائر الفادحة التي منيت بها واشنطن خلال العام المنصرم، عام انتشار جائحة كوفيد-19 المستجد، الأمر الذي أعاد الاقتصاد الأميركي إلى الوراء كثيراً، وأعطى فرصة مؤكدة للصين على نحو خاص لأن تتجاوز خلال سنوات قليلة وقبل أن ينصرم العقد الحالي مكانة أميركا الاقتصادية حول العالم.

الوزير بلينكن يرى أن التهديدات التكنولوجية والاقتصادية والمعلوماتية تهدد الأمن الأميركي، بما لا يقل خطورة عن التهديدات العسكرية، ويرى أن ذلك النوع من عوامل الصدام والتنافس يشمل استخدام حملات التضليل والفساد المسلح لإذكاء عدم الثقة في الديمقراطية الأميركية، عطفاً على الهجمات الإلكترونية التي تستهدف البنية التحتية الحيوية وتسرق الملكية الفكرية.

ترى الدوائر المعنية في واشنطن أن الصين مهدد سافر يقوم على الإكراه الاقتصادي المباشر لأستراليا.

أما الروس، فإن أصابع الاتهام موجهة لهم في الفضاء السيبراني منذ عام 2016، أي وقت المبارزة الانتخابية بين هيلاري كلينتون، ودونالد ترمب، وترويج معلومات مضللة، بحسب الإدعاءات الأميركية.

أضف إلى ذلك، أن جانباً كبيراً من الأميركيين يرى أن الروس قد عمدوا إلى ترويج معلومات مغلوطة عن اللقاحات الأميركية، ما يخصم من ثقة الأميركيين في إدارتهم وبرامج مواجهة الجائحة، وبالتالي التأثير على النسيج المجتمعي الأميركي، والذي يعاني من حال تفكك بشكل واضح.

التغير المناخي والأوبئة والإرهاب

ضمن محددات المجموعة الثالثة من مجموعة لتهديدات التي تمثلها روسيا والصين بالنسبة للولايات المتحدة، تتصاعد حزمة من الأزمات العالمية، وفي مقدمها التغيرات المناخية.

تنظر واشنطن إلى بكين على أنها أحد الأسباب الرئيسة للاحتباس الحراري، وذلك بسبب اعتمادها على الفحم الكربوني حتى الساعة، الأمر الذي يجعل مسألة مقاومة الانبعاثات الغازية أمراً عبثياً، فيما الصين لا يهمها سوى دوران عجلة مصانعها، وزيادة ناتجها القومي الإجمالي لتسابق واشنطن.

وفي إطار التهديد الثالث، تبقى قضية الأوبئة مهدداً مخيفاً، وبخاصة في ظل تجربة فيروس كورونا المستجد، الفيروس الذي أطلق عليه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، وصف “الفيروس الصيني”، ما جعل الكراهية والأحقاد من جانب الأميركيين تتصاعد إلى أعلى عليين ضد الصينيين.

ويبقى الإرهاب أحد العوامل المثيرة للشقاق والفراق بين العواصم الكبرى الثلاث، وقد لمح بلينكن إلى الملاذات الآمنة التي تقدمها الدول الكبرى للجماعات الإرهابية، لا سيما في ظل حالة الفوضى والسيولة الجيواستراتيجية العالمية.

لكن على الجانب الآخر، كيف يرى الروس والصينيون العم سام، وهل هو بريء كل البراءة، أو يمثل حالة من اليوتوبيا والطهرانية مرة واحدة، ولهذا ينبغي تصديق حديثه مرة وإلى الأبد، أم أن هناك من جانب موسكو وبكين، ما يجعل رؤية واشنطن سباقاً قطبياً على خارطة شطرنج إدراكية، يلعب عليها عدد من المتنافسين.

الصين والرؤية القطبية الهادئة

في مواجهة واشنطن، تطل الصين بقواها الناعمة وحديثها الهادي، من جهة، لكنها من جهة ثانية تسعى إلى تعزيز انتصاراتها الاقتصادية والسياسية، وبالطبع العسكرية.

لا تتحدث الصين عن رغبتها في منازلة واشنطن أو محاولة إزاحتها عن المشهد الدولي، بل عن مزيد من التعاون، وتدعو إلى ما تطلق عليه إزالة تأثيرات سياسات ترمب وتجنب خلق مشاكل جديدة.

في أواخر مارس (آذار) المنصرم، دعت الصين في بيان عقب الاجتماع مع الولايات المتحدة في ألاسكا، السلطات الأميركية إلى تجنب خلق مشكلات جديدة مع بكين، وقد أشارت اللجنة الصينية التي شاركت في الحوار الاستراتيجي الصيني – الأميركي، إلى أنه “في السنوات الماضية، أضرت سياسات الإدارة الأميركية السابقة، المعيبة للغاية والمعادية للصين- على حد وصف البيان- بشكل خطير بمصالح الصين والعلاقات الصينية الأميركية، وقد اضطرت الصين إلى اتخاذ الإجراءات المناسبة والضرورية لحماية سيادتها وأمنها ومصالحها التنموية… ما الذي يمكن فهمه من الكلمات الأخيرة في هذا التصريح؟

الثابت أن الصين التي تمضي في طريق الفلسفة الكونفوشيوسية، ترى أنه من غير المناسب الدخول في صراع عسكري في هذا التوقيت مع الولايات المتحدة الأميركية، حتى وإن كانت تضع هذا الاحتمال ضمن خطوط طول وعرض سياساتها في قادم الأيام.

تعرف الصين كيف تعزز أوراق القوة خاصتها في مواجهة واشنطن، ومن غير أن تطلق رصاصة واحدة، وإن حمل المشهد تصادم عوامل أخرى، كالدبلوماسية الوقائية في زمن جائحة كوفيد-19 المستجد على سبيل المثال.

هنا يمكن الإشارة إلى أنه وفيما واشنطن لم تكف عن ترديد مقولة “الفيروس الصيني”، وإذ تضطرب أحشاء واشنطن في داخلها وتكاد تنهزم في مواجهة الفيروس الشائه، تجد الصين مسارب عديدة لتعزيز نفوذها حول العالم، من خلال تصدير الملايين من عبوات اللقاحات إلى الدول الصديقة، أو التي تسعى إلى مد جسور الصداقة معها.

أكثر من ذلك فإن الصين التي تنتج نحو خمسة ملايين عبوة من لقاحات كورونا يومياً، بدا وكأنها قد دخلت في سباق مثير مع الولايات المتحدة في خلفيتها الاستراتيجية، أي دول أميركا اللاتينية، من أجل تزويدها بالمزيد من اللقاحات في محاولة لاستنقاذ شعوبها من الوباء المهلك، فيما واشنطن أخذت جانب المتفرج حتى الساعة، وقد يجد لها البعض العذر، بسبب فداحة انتشار الفيروس على أراضيها ووسط مواطنيها.

واشنطن – بكين… انتقام الجغرافيا

تبرع بكين في تسخير عوامل الجغرافية في صراعها القطبي مع الولايات المتحدة الأميركية، من خلال رؤى عولمية بعيدة المدى من عينة، إحياء طريق الحرير القديم، والذي يكفل لها مساراً مزدوجاً مع قارتين من قارات العالم القديم أوروبا وأفريقيا.

أما أوروبا، وقبل أن يعكر صفو العلاقات بين بروكسل وبكين فيروس كورونا، وتالياً قضية الإيغور، فكانت الصين نجحت بشكل كبير في تقديم عروض مغرية لدول أوروبية مثل إيطاليا، عروض جعلتها تقع في فخ القروض والاستثمارات الصينية ولا تستطيع مقاومتها كما يرى الأميركيون.

أكثر من ذلك، فإن واشنطن تخشى كل الخشية أن تصحو ذات نهار لتجد أوراسيا تتجسد على الأرض، في تعاون بين روسيا والصين والاتحاد الأوروبي.

على أن ما يخص أفريقيا لا يقل إزعاجاً لواشنطن، فالقارة السمراء هي الموقع والموضع الوحيد المتبقي لصراع القوى الكبرى، انطلاقاً من أمرين، الأول، هو الثروات الكامنة في بطن تلك القارة الغنية بمواردها، والفقيرة بحكوماتها وأنظمتها، بينما الأمر الثاني، موصول بحاجة تلك القارة الواسعة الشاسعة إلى أعمال تنموية تحتاج إلى مئتي عام لتصل إلى مستوى الدول المتقدمة.

تلعب العوامل الجيوسياسية والاقتصادية في إفريقيا دوراً كبيراً في احتمالات الصراع المقبل بين القوى الكبرى، ولعل حديث السباق على خيرات أفريقيا يرسم مشهداً مثيراً بين بكين وواشنطن وموسكو.

فيما يخص واشنطن بكين، فإن الجانب الأميركي يرى أن الصين تستخدم الأموال الساخنة لابتزازها في القارة الأفريقية… ما الذي نعنيه بالأموال الساخنة؟

الجواب يعود بنا إلى تفوق العوامل الاقتصادية الصينية على نظيرتها الأميركية، ما يجعل الصدام العسكري، أو فخ ثيوسيديديس، بين الجانبين في نهاية المطاف، أمراً لا بد منه، بالضبط كما حدث بين إسبرطة وأثينا قبل الميلاد.

الصين وبسبب نجاحاتها الاقتصادية وتعاظم إنتاجها، استطاعت أن تدرك قوة ردع نقدي، تستغلها في الوصول إلى البلدان المأزومة اقتصادياً، عبر تقديم قروض ساخنة وسخية للإنقاذ.

هنا تبدو القضية جنونية بالنسبة لواشنطن، ذلك أنه فيما تطلب دولة ما خمسين مليون دولار قرضاً من الولايات المتحدة، تسارع الصين إلى تقديم خمسمئة مليون، سهلة ميسرة، ومن غير شروط بخلاف واشنطن التي تضع لائحة طويلة من العوامل المحددة لكفاءة هذه الدولة أو تلك للحصول على القرض الضئيل، شروط من نوعية حقوق الإنسان، ومحاربة الإرهاب، وفوق كل ذلك ارتهان واضح وفاضح للإرادة الوطنية.

وفي المجابهة الصينية الأميركية، يرصد المرء قضية الهيمنة على البحار، لا سيما في منطقة بحر الصين الجنوبي، تلك التي يتوقع البعض أن تضحى فتيلاً لحرب إقليمية كبرى، لا تنفك تضحى عالمية.

تدرك الصين أن من يسيطر على البحار، فله الغلبة، هكذا فعلت بريطانيا في النصف الأول من القرن الحادي والعشرين، وهكذا كان ديدن الولايات المتحدة الأميركية في العقود السبعة الماضية، أي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى الساعة.

تطالب الصين بحقوق تاريخية في منطقة بحر الصين الجنوبي، وتسعى للسيطرة على موارد في مساحات شاسعة من المحيط حول مجموعات من الجزر البحرية الصغيرة المتنازع عليها، وفيما تسعى الصين لبناء جزر صناعية في أرخبيل بحر الصين الجنوبي، ترى واشنطن أنه لا حق للصينيين في ذلك، بل إعاقة لحركة الملاحة البحرية الدولية، وهو ما لا يمكن أن تقبله واشنطن، وما يجعل اشتعال المشهد وارداً عند أقرب لحظة من سخونة الرؤوس.

ولعله من النقاط الساخنة جداً بين واشنطن وبكين تطل مسألتان، الأولى، خاصة بالعالم السيبراني، وهنا فإن الصين مصرة على تعميق مشاركتها في عوالم الإنترنت، وهي تدرك أن من يتحكم في هذا المجال، يمكنه تشكيل العقول والأفئدة كيفما يشاء.

أما المجال الثاني الذي يتسبب لواشنطن في حالة من الهلع المستمر والمستقر، فمرده إلى تصرفات الصين كقوة محافظة ترفض مراجعة المعايير الليبرالية، مثل رفضها معيار “مسؤولية الحماية”، وفي مقدمها الحماية الفكرية للأفكار والمخترعات.

تعمل الصين على تفعيل مبدأ أميركي مثير وخطير، إنه نظرية “الكابتن مورغان”، ذلك القرصان الذي ابتكر نوعاً جديداً ومثيراً من القرصنة في البحار والمحيطات، ذلك أنه لم يكن يبادر إلى السطو على السفن المبحرة، بل كان ينتظر القراصنة العائدين من غزواتهم البحرية بالغنائم، فيغير عليهم ويسطو على ما اغتنموه.

بالضبط هذا ما تتشكى به الولايات المتحدة ضد الصين، فهي ترى أن الصينيين يبرعون في أعمال التجسس، بهدف واضح وهو سرقة آخر المخترعات الأميركية سواء كانت مدنية أو عسكرية، ومن هنا يدرك الناظر سر النهضة العسكرية الصينية في العقود الثلاثة الأخيرة، ويوماً تلو الآخر تقبض السلطات الأميركية، على صينيين بتهمة تهريب أسرار أميركية إلى الصين، من كل نوع وشكل…

هل يمكن أن تودي هذه العوامل إلى انفجار ما من واشنطن إلى بكين؟

الجواب نجده عند ثعلب السياسة الأميركية وبطريركها المعاصر هنري كيسنجر، ففي كلمة له عبر تقنية ،”زووم” وخلال فاعلية أقامها المعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن “تشاثام هاوس”، اعتبر الدبلوماسي الأميركي المخضرم، أنه على واشنطن الوصول إلى تفاهم مع بكين لضمان الاستقرار، وإلا سيواجه العالم فترة خطيرة كتلك التي سبقت الحرب العالمية الأولى، حيث كانت الصراعات المستمرة تحل على أساس فوري لكن أحدها كان يخرج عن السيطرة في مرحلة ما.

وتابع كيسنجر: “إن الأمر الآن أكثر خطورة مما كان عليه في السابق”، مضيفاً أن “الأسلحة فائقة التطوير التي يمتلكها الجانبان، قد تؤدي إلى صراع خطير للغاية”.

هل يستقيم حديث صدام المصالح، وصراع الرؤوس الاستراتيجية الثلاث من غير التوقف أمام موسكو في شدها وجذبها مع واشنطن وبنوع خاص في ظل التصريح، قليل الحظ الأخير للرئيس الأميركي جوزيف بايدن والذي وصف فيه نظيره الروسي بأنه قاتل؟

بايدن – بوتين… انتكاسة مفاجئة

طوال حملته الانتخابية لم تغب الصين عن تصريحات المرشح الرئاسي جوزيف بايدن، كانت على الدوام هي العدو الأول ومن غير منازع، غير أن مسار الأحداث سرعان ما خرج عما هو مألوف، وفوجئ الجميع بتصريحات بايدن المتلفزة عن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين الذي وصفه سيد البيت الأبيض بأنه قاتل.

المثير أن التصريح جاء بعد تمديد معاهدة الحد من الأسلحة الهجومية عقب مكالمة هاتفية بين الرئيسين الروسي والأميركي، اعتبرت بادرة طيبة، عقدت عليها الآمال، بأن يبدأ الرئيس بايدن، وإدارته الجديدة، عهداً جديداً يمكن من خلاله البحث عن نقاط التلاقي والتفاهم، بدلاً من تعزيز وتضخيم نقاط الخلاف والعداوة.

هل غابت روسيا في يوم ما عن أعين أميركا الرسمية، وجاء بايدن ليعيد اكتشاف الخطر الروسي؟

روسيا تربح من غير رصاصة واحدة

حددت استراتيجية الأمن القومي لعام 2017 روسيا على أنها “قوة مراجعة”، تعمل على “تشكيل عالم يتعارض مع قيم ومصالح الولايات المتحدة”، وحددت استراتيجية الدفاع الوطني “المنافسة الاستراتيجية طويلة الأجل”، مع القوى المراجعة على أنها التحدي المركزي أمام الازدهار والأمن في الولايات المتحدة…

ما الذي يجعل الولايات المتحدة وعلى الرغم من انتهاء الحرب الباردة، وفي ظل وجود دونالد ترمب في البيت الأبيض، والرجل لم يظهر عداء أبداً لروسيا، بل صب جام غضبه على الصين، تمضي في هذا التصور؟

يمكن القطع بداية أن مجرد وجود مثل هذه الاستراتيجيات، إنما يعني أن الولايات المتحدة الأميركية لا تدار من قبل رجل واحد، حتى لو كان الرئيس، بل تديرها الدولة العميقة التي تعرف أحياناً بجماعات المصالح، والتي تتشظى إلى فريق المجمع الصناعي العسكري الأميركي من جهة، وأصحاب رؤوس الأموال من ناحية ثانية، مروراً بالجماعات المؤدلجة دوغمائياً، وأنصار اليمين المتشدد إلى حدود التطرف.

مهما يكن من أمر، فإن جميع هؤلاء والذين يشاركون حكماً من وراء الستار، قد لاحت أصابع أيديهم وحتى أرجلهم في تلك الاستراتيجية، يقيناً منهم أن القيصر بوتين يحمل في نفسه ثأراً لم تبرد نيرانه حتى الساعة من الولايات المتحدة الأميركية، وربما حان وقت القصاص.

لم يدارِ بوتين أو يوارِ، وطوال عقدين من الزمن، شعوره بأن أكبر خطأ ارتكبته البشرية في القرن العشرين، إنما تمثل في تفكيك بل تفخيخ الاتحاد السوفياتي، وبلوغه تلك الحالة المزرية التي وصل إليها لاحقاً.

والشاهد أنه خلال العقد الثاني من القرن الحالي، وعبر محطتين زمنيتين متصلتين، اعتبر الأميركيون أن بوتين استطاع تسخير عوامل الجيوسياسة، عطفاً على الاقتصاد لتوجيه ضربات قاصمة لا تصد ولا ترد للولايات المتحدة.

الموجة الأولى التي نحن بصددها، تمثلت في السنوات الأولى لإدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، تلك التي عرفت بأزمنة الربيع العربي، وقد بدا جلياً أن أوباما تربطه علاقة ما بجماعات الإسلام السياسي التي يناصبها بوتين العداء.

أظهر الروس بقيادة بوتين دعماً واضحاً لكثير من بلدان العالم العربي، بهدف كشف أبعاد العلاقات الأميركية – الأصولية، وقد بلغ من شأن إعجاب الشباب العرب أن رفعوا صور بوتين في ميادين الثورات، بالضبط كما حدث في ميدان التحرير وسط القاهرة غداة تظاهرات يناير (كانون الثاني) 2011.

لاحقاً عرف القيصر كيف يستعيد كثيراً من النفوذ الروسي عبر مد جسور التواصل مع المصريين، فيما دعمه الكبير للنظام السوري، أثبت لشعوب الشرق الأوسط كيف أن موسكو أكثر ولاء لأصدقائها، وأنها لا تتخلى عنهم كما فعلت واشنطن، حين طالب أوباما برحيل الحليف المصري الأكبر والأشهر حسني مبارك “الآن يعني الآن”.

تالياً فضل باراك أوباما الإحجام عن الدخول في أي مواجهة حقيقية لحسم كثير من القضايا بل المعارك العالقة في كثير من البقاع والأصقاع، فلم يأخذ موقفاً جدياً من استخدام سوريا الأسلحة الكيماوية، ووقف صامتاً أمام استرجاع القرم.

في الوقت عينه كان بوتين يقدم ولا يحجم، ويخوض غمار المعارك، ليكسب العديد من المعارك من غير أن يتكبد عناء إطلاق رصاصة واحدة، وليترك أوباما يجني الحسرات من جراء سياسة القيادة من وراء الكواليس.

على أن ما جعل ويجعل الصدام الأميركي– الروسي، قائماً ومقبلاً، يتجاوز ما تقدم إلى مربعات أشد سخونة وأكثر مجازفة…

ماذا عن ذلك؟

اختراقات سيبرانية وتهديدات أميركية

لعل ما يجعل سيناريوهات التصادم من واشنطن إلى موسكو والعكس واردة بشدة أمرين خطيرين:

الأول، يتمثل في أدوات المواجهة في العالم الافتراضي السيبراني، والذي بات باباً خلفياً للدول والمنظمات، وحتى للجماعات الإرهابية، لتخل فيه من أمن وأمان العالم ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.

في هذا الشق يبدو أن الرئيس بايدن لم يصف بوتين بالقاتل، ذلك الوصف غير المسبوق والخارج عن كل لياقات البروتوكول الرئاسي في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، إلا ليقين لديه بأن سيد الكرملين قد ارتكب جرماً فظيعاً في حق الشعب الأميركي لا يغتفر.

يؤمن بايدن إيماناً مطلقاً بأن الروس هم من وقفوا في عام 2016 وراء فوز ترمب، وهزيمة هيلاري كلينتون، بعد ما اخترقوا أجهزة الحواسيب الآلية الخاصة بحملة الديمقراطيين، وعرفوا كيف أن تآمراً ما جرى على المرشح بيرني ساندرز، واستبعاده من الحملة الانتخابية لصالح هيلاري.

بايدن يرى أن ما فعله الروس يتجاوز مسألة الانحياز إلى مرشح ضد الآخر، ويصل حد التآمر على أميركا ونظامها، ومحاولة توجيه لطمة لنسق الديمقراطية فيها، ما يجعل مواطنيها يكفرون بنظامها الاتحادي، وبأحزابها الفاسدة، الأمر الذي يقود إلى تفكيك أميركا، بالضبط كما فعل الأميركيون بالروس.

ولعله من المصادفات القدرية الغريبة، أن يخرج مجمع الاستخبارات الوطنية الأميركية في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وبعد ما فاز بايدن في الانتخابات الرئاسية بتقرير أكثر خطورة عن هجمات سيبرانية تعرضت لها الولايات المتحدة، ما جعل وزارتي الخارجية والخزانة تئنان تحت وقع الهجوم، وعلى الرغم من أن تصريحاً رسمياً- ربما لأسباب تتعلق بالأمن القومي- لم يخرج حول ما إذا كانت وزارة الدفاع، والمنشآت النووية الأميركية قد تعرضت لهجومات أو أصيبت بخسائر من أي نوع.

 لكن ردود فعل بوتين، وقبله بومبيو، كانت تؤكد أن الخطر جسيم والإصابة فادحة، ومن هنا جاءت التهديدات الأميركية بأن من فعلها سوف يدفع ثمناً فادحاً، ولم يقصر الكل في توجيه أصابع الاتهام مباشرة إلى روسيا التي أنكرت أي صلة لها بها، وإن بقيت الأدوات السيبرانية أحد أخطر محددات التصادم الأميركي– الروسي الممكنة…

هل يعني ذلك أن احتمالات المواجهة العسكرية بالأدوات التقليدية والنووية قد توارت؟

موسكو وإصابة إبرة أميركية بصاروخ

يقودنا الحديث عن الأمر الثاني من سيناريوهات الصدام الوارد حدوثه، إلى الصدام العسكري، لا سيما إذا حاول الناتو الاقتراب من حدود روسيا الغربية.

على أن جزئية ما ينبغي الإشارة إليها في هذا المجال، وهي أن الوعي الروسي البوتيني للمواجهة مع الولايات المتحدة تختلف كثيراً جداً عن الأدوات التي عمدت موسكو في زمن الاتحاد السوفياتي للجوء إليها.

فقبل نحو خمسة عقود، استطاعت الولايات المتحدة سحب الروس إلى مستنقع معارك مسلحة في العديد من الدول شرقاً وغرباً حول العالم، ناهيك عن إجبار موسكو على الدخول في سباق تسليح غير متكافئ الموارد، إلى أن بلغ الاتحاد القديم حال عملاق قدماه من فخار وليس من نحاس.

بوتين تنبه لهذا المشهد، ولهذا عمد إلى تقوية أدوات الردع الروسية بما خف ثمنه وزادت فاعليته، ومن آيات ذلك الصواريخ “تسيركون”، فرط الصوتية، المحملة الرؤوس النووية والقادرة على إصابة أهداف في الولايات المتحدة بعد دقائق من إطلاقها.

هذه القذائف فرط الصوتية، ستتمكن من تغيير طبيعة المواجهة العسكرية في المستقبل بشكل جذري، لأنها تستطيع التحليق بسرعة تصل إلى 5 ماخ وأكثر، أي أسرع من الصوت بخمس مرات، فيما لا تزال الولايات المتحدة متخلفة عن منافسيها في هذا المجال العسكري الخطير.

خذ إليك أيضاً حديث الغواصة الروسية “بوسيدون”، تلك التي لا تحمل بشراً في جوفها، ولا تمتلك صواريخ تقليدية أو نووية، لكنها حال وصولها إلى الساحل الشرقي للولايات المتحدة وتفعيل دورها، فإنه يمكنها توليد موجات كهرومغناطيسية كفيلة بإحداث موجات تسونامي تغرق مدن بقدر نيويورك دفعة واحدة.

أما الصاروخ الجهنمي “سارامات” والقادر على حمل عشرة رؤوس نووية، فإن واشنطن تدرك أنه قادر على إبادة عدة ولايات أميركية في لحظات.

ثلاثة رؤوس… النجاة معاً أو الغرق

هل ما تقدم هو كل الأبعاد الخاصة بالعوامل الجيوسياسية والاقتصادية التي تجعل الصدام الثنائي، وربما الثلاثي حال التعاون الروسي– الصيني، وهو حادث بالفعل، في مواجهة أميركا، أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة؟

بالقطع ما تقدم غيض من فيض، ولو أردنا الاستزادة فالأمر يحتاج إلى مؤلف قائم بعينه، غير أن هذا القليل على كثرته ترشح منه معادلة مصيرية مهمة، وهي أننا في زمن غير زمان الحروب العالمية في القرن الماضي، ومع تداخل الخيوط وتشابك الخطوط، فإن أحداً لن ينجو من أي صدام مقبل، وعليه فإن حالة السيولة الجيواستراتيجية الآنية، من الخطر بمكان بلوغ حافة الانهيار، وساعتها سوف يغرق القارب بمن عليه، ولن يتمكن أحد من الفرار.

هل الصدام قدر مقدور في زمن منظور؟

إحدى أهم العبارات التي وردت على لسان الدبلوماسي الشاب والمغامر، توماس إدوارد لورانس، أو لورانس العرب، أنه ما من قدر منقوش على حجر، بمعنى أن البشر هم فقط من يمكنهم تدبر أمورهم إما خيراً أو شراً، وهذا ما يجعل الرؤوس القطبية الثلاث مدعوة لإعادة التفكير طولاً وعرضاً شكلاً وموضوعاً ومساحة إجمالية.