الفارق كبير بين الأحلام الأيديولوجية والوقائع العملية
رفيق خوري كاتب مقالات رأي
كانت كوبا تبدو تحت حكم باتيستا وسيطرة المافيا والشركات الأميركية مثل “بيت بمنازل كثيرة” بحسب توصيف المؤرخ كمال الصليبي للبنان: “جنة” للمقامرة والسياحة والترفيه، “جحيماً” للأكثرية الفقيرة من شعبها، و”أرضاً” للهجرة يقصدها المهاجرون من لبنان وسوريا للعمل.
في مطلع 1959 أكمل الثوار الشيوعيون الذين بدأوا الثورة في جبال سييرا دي لاسيرا انتصارهم بدخول هافانا بقيادة الدكتور فيديل كاسترو ومعه شقيقه راؤول والثائر الأرجنتيني العالمي تشي غيفارا. ليس واضحاً ما كان دور الاتحاد السوفياتي في تحدي أميركا بثورة شيوعية في الجزيرة الصغيرة جنوب الولايات المتحدة.
لكن خروشوف الذي موّل”السد العالي” في مصر بعد رفض البنك الدولي التمويل بقرار أميركي ثم تأميم الرئيس جمال عبد الناصر لقناة السويس و”العدوان الثلاثي” البريطاني- الفرنسي- الإسرائيلي على مصر، لم يبدل موقفه من عبد الناصر الذي بدأ مع انتصار كاسترو حملة اعتقالات للشيوعيين في مصر وسوريا أيام الجمهورية العربية المتحدة.
ثوار كوبا كانوا قليلي الخبرة في إدارة البلد، إلى حد أنهم لم يجدوا خبيراً مالياً يتولى البنك المركزي، فاضطر غيفارا لتسلم المنصب الذي لا يعرف كيف يديره. غير أنهم كانوا يعرفون كيف يحافظون على السلطة، بحيث بقيت الثورة والدولة تحت حكم الأخوين كاسترو على مدى 62 عاماً. فيديل استمر في قيادة الحزب ورئاسة الدولة إلى ما قبل سنوات حين عجز صحياً، فتسلم الدفة شقيقه راؤول.
أما غيفارا، فغادر كوبا ليقاتل ضمن ثورات في بلدان أخرى من أميركا اللاتينية، حيث واجه الموت بشجاعة وقال لمقاتليه: لن تربحوا. وأما راؤول الذي تولى قيادة الحزب والدولة، فإنه تخلى قبل أعوام قليلة عن رئاسة الدولة لرفيقه ميغيل دياز كانيل، ومن ثم تخلى قبل أيام بعدما صار في التسعين عن قيادة الحزب للرئيس كانيل الذي في الستين. والمؤكد أنه سيلعب دور”المرجع” الذي لعبه دينغ هسياو بينغ في الصين بعد تقاعده. وفي كل الأحوال، لا أميركا تمكنت من إسقاط النظام، ولا النظام تمكن من استعادة قاعدة “غوانتانامو” من أميركا.
والسؤال هو: ما الذي حققته الثورة الكوبية وما الذي أخفقت في تحقيقه؟ والجواب البسيط هو أن الفارق كبير بين الأحلام الأيديولوجية وبين الوقائع العملية. فمن الصعب توقع التوصل إلى الاكتفاء الكامل والعدالة الاجتماعية في ظل نظام ديكتاتوري شمولي ولو كان ليبرالياً ورشيداً إلى حد ما. والأصعب هو توقع ذلك في مواجهة حصار أميركي خانق مفروض على مدى عقود، كما في مواجهة غزو مثل “خليج الخنازير” ومحاولات عدة لاغتيال فيديل كاسترو.
فالانفتاح الذي حاوله الرئيس باراك أوباما بدعم من الفاتيكان أنعش الجزيرة قليلاً، لكن الرئيس ترمب تراجع عنه. وكلما جرت محاولة لفتح الأبواب واجهت مقاومة من طرفين: المهاجرين الكوبيين اليمينيين في فلوريدا وهم صاروا “قوة لوبي”فاعلة، واليساريين المتشددين ماركسياً في الحزب الشيوعي الكوبي.
والكل يتذكر أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا التي اقتربت فيها واشنطن وموسكو من حرب نووية ومن ثم توصل الرئيس جون كينيدي والزعيم خروشوف إلى اتفاق قضى بسحب الصواريخ مقابل سحب صواريخ أميركية قديمة من تركيا، مع تعهد أميركي بالتوقف عن أي عمل لإسقاط النظام في كوبا.
والمفارقة خلال أزمة الصواريخ، أن فيديل كاسترو بعث رسالة إلى القادة السوفيات طلب فيها الإبقاء على الصواريخ ولو هاجم الأميركيون كوبا ودمروها، فقال العضو البارز في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي ميخائيل سوسلوف: “هذا جنون انتحاري”.
غير أن كوبا، على رغم اقتصادها الضعيف، حققت إنجازات مهمة على الصعيد الاجتماعي، كما صنعت نهضة علمية وتربوية، بحيث صارت تصدّر إلى أفريقيا والبرازيل وبلدان أخرى آلاف الأطباء الذين يخدمون هناك. وليس هناك حتى الآن ما يشير إلى ما يمكن أن يفعله الرئيس جو بايدن الذي كان نائب الرئيس السابق أوباما وداعماً للانفتاح على كوبا.
ولا أحد يعرف إلى أي حد يريد ويستطيع الزعيم الجديد كانيل صنع التغيير، وسط صعود الجيل الذي كان في مقاعد الدرجة الثانية إلى مقاعد الدرجة الأولى، ونشوء جيل جديد في المجتمع قادر عبر ثورة الاتصالات على التواصل مع الداخل والخارج بعيداً من الرقابة.
والخيار محدد أمام كوبا في مرحلة ما بعد الأخوين كاسترو: إما الإصرار على النموذج السوفياتي والنموذج الكوري الشمالي، بالتالي مواجهة مخاطر الانهيار من الداخل. وإما التعلم من النموذج الصيني، وهو اقتصاد السوق في رعاية الحزب الشيوعي، بالتالي الازدهار الاقتصادي. والخيار لم يعد ترفاً.