الصراع الداخلي في لبنان يستعصي على الضغوط الخارجية


الفاتيكان لا ينظر لأزمة الحكومة كتقاسم للحصص بل من زاوية التعايش الإسلامي المسيحي والحرص على اتفاق الطائف

وليد شقير كاتب صحافي @ChoucairWalid

لا تقوى كل الوساطات والتدخلات الدولية على الدفع نحو تأليف الحكومة في لبنان. حتى التحضير للعقوبات الأوروبية على معرقلي الحكومة، التي قرر وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي الإثنين الماضي في 19 أبريل (نيسان) وضع آلية لها، لا يبدو أنه سيفضي إلى تدوير الزوايا في مواقف الفرقاء المعنيين.

فهذه العقوبات سيأخذ إعدادها وقتاً خصوصاً أنها مختلفة عن الآليات الروتينية للآليات القانونية المتعلقة بالعقوبات التي لها قوانين يعتمدها الاتحاد، المتعلقة بحقوق الإنسان أو الإرهاب أو أسلحة الدمار الشامل، لأنها سياسية بامتياز ضد عرقلة تكوين السلطة وضد من يقوضون مؤسسات الدولة، وتتناول أسماء محددة. ومع أن هناك من يراهن على أن الوقت الذي سيستغرقه تجهيزها قد يكون فرصة للمعرقلين كي يراجعوا موقفهم، فإن الأمل بذلك عند العارفين بخفايا الوساطات التي حصلت يميلون إلى التشاؤم.

وفي الانتظار يزيد التأزم الداخلي من تهشيم المؤسسات اللبنانية، وآخر مظاهر ذلك انتقال الصراع على السلطة إلى قلب القضاء اللبناني كما جرى خلال هذا الأسبوع، حين تحوّلت مكافحة الفساد والخطوات القضائية في مواجهته إلى عملية سياسية تحرف تطبيق القوانين عن غرضها.

احتواء الأزمة بالمساعدات الإنسانية

بقاء الانسداد السياسي على الرغم من كل المداخلات الدولية والعربية والضغوط لإنهاء الفراغ الحكومي، يقود إلى الاعتقاد بأن الصراعات الدائرة في المنطقة تحت مظلة ترجيح التفاوض على تسويات لبعض أزماتها طالما هذا هو توجه الإدارة الأميركية الجديدة، يوحي بأن كل تلك المداخلات تحصل من أجل احتواء الأزمة اللبنانية والحؤول دون إضافة تعقيدات إضافية على الوضع الإقليمي الشديد التعقيد أصلاً، وثمة انطباع لدى بعض المنغمسين مع التحركات الخارجية الساعية إلى مخارج من الأزمة، بأن اهتمام العواصم الكبرى المعنية بالأزمة اللبنانية يتوخى إبقاءها تحت السيطرة والإدارة العقلانية التي تخفف من حدة الخسائر، في انتظار أن تدق ساعة الحلول والمعالجات المطلوبة السياسية والاقتصادية، إذا أخفقت هذه العواصم في إنتاج المخارج في الظروف الراهنة.

والمقصود بالإدارة العقلانية للأزمة هو منع انزلاق الوضع الأمني إلى الفوضى الشاملة وتأثّر المحيط به، ومن هنا الإجماع على دعم الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي، ومحاولة التخفيف من تأثير تدهور الوضع المعيشي بسبب استمرار تراجع سعر صرف الليرة اللبنانية على الجنود والضباط بضخ المساعدات الغذائية للقوات المسلحة، بل إن أقصى ما يعد به بعض الدول في حال حصل مزيد من الانهيار، هو تكثيف المساعدات الغذائية والإنسانية لتوزيعها على اللبنانيين عندما يحول نضوب احتياطي مصرف لبنان من العملات الصعبة آخر شهر مايو (أيار) المقبل، من دون استيراد المواد الغذائية والأدوية بعد رفع الدعم عنها.

واشنطن ركزت على ترسيم الحدود

المحاولة الأميركية التي قام بها وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية السفير ديفيد هيل، اقتصرت على الحث والإلحاح على تسريع التأليف. لم يدخل هيل في تفاصيل الخلافات على المقاعد الوزارية والحصص المختلف عليها، وهو ركّز على ضرورة إيجاد مخرج من رفع الجانب اللبناني سقف مطالبه من إسرائيل في شأن الحدود البحرية، واستطاع الإفادة من ليونة أبداها الرئيس ميشال عون بعدم توقيعه مرسوم يزيد من مساحة المنطقة الاقتصادية الخالصة في البحر، وبالتالي من مساحة المنطقة المتنازع عليها مع إسرائيل، الذي إن وقعه عون لكانت إسرائيل أعلنت وقف المفاوضات.

وفي وقت قال محللون إن عون الذي كان وافق على توسيع المساحة المتنازع عليها من 860 كيلومتراً مربعاً إلى 2230 كيلومتراً مربعاً، عاد ففرمل توقيع المرسوم الذي يشرع ذلك كورقة مساومة مع الجانب الأميركي، آملاً رفع العقوبات الأميركية عن صهره رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل، ما سيسهل إزالة العقبات أمام الحكومة، وأفادت معلومات خاصة بأن لا الرئيس عون ولا الوفد القيادي من “التيار الحر” الذي التقى هيل طرح موضوع العقوبات ضد باسيل معه. كذلك نفى باسيل هذه التكهنات في بيان رسمي. وفي النهاية اكتفى هيل بإبداء الأسف لأن العقبات تتكاثر أمام قيام الحكومة الجديدة برئاسة زعيم تيار “المستقبل” سعد الحريري.

المحاولة الروسية: تقاطع أم تنافس مع الغرب؟

المحاولة الروسية لم تكتمل فصولها بعد، مع أن موسكو استقبلت الحريري وعاملته ليس فقط على أنه رئيس حكومة مكلف، بل كأنه رئيس حكومة مكتملة المواصفات، مع تأييدها المعروف لوجهة نظره برفض حصول فريق الرئيس عون أو غيره على الثلث المعطّل فيها. وإذا كانت موسكو تولي أهمية لعلاقتها مع زعيم “المستقبل” كرمز للاعتدال السني، فإن اهتمامها بلبنان ينبع من مصلحتها في حفظ الاستقرار فيه حتى لا يؤثر تدهور أحواله المعيشية في الصعيد الأمني، فينعكس ذلك على سوريا الغارقة في أزمة اقتصادية خانقة أيضاً، والتي تتمتع فيها بنفوذ وتحتفظ على أرضها بقوات منتشرة في عدد من المناطق. ويحلو لأحد السياسيين القول إنه بعد 16 سنة على الانسحاب السوري من لبنان، من مفارقات الزمن أن “وحدة المسارين” السوري واللبناني الذي كان النظام السوري يعتمدها لتغليف هيمنته على لبنان، عاد موضوعياً إلى الواجهة من زاوية الأزمة الاقتصادية في البلدين وتداخل بعض أوجهها وانعكاساتها على كل منهما.

بعض الأوساط يتحدث عن أن روسيا تنافس النفوذ الأميركي الغربي في لبنان من زاوية فشل واشنطن ومعها فرنسا في إحداث خرق في جدار الأزمة، في وقت باستطاعة موسكو أن تلعب دوراً أكثر فعالية نظراً إلى علاقتها مع “حزب الله” الذي استقبلت وفداً منه، وإلى دعوتها رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل الخاضع لعقوبات أميركية، إلى موسكو في 29 أبريل، فالجانب الروسي حرص على إبقاء علاقته مفتوحة مع خصوم الحريري مع أنها تؤيد وجهة نظره لعله يلعب دوراً وسيطاً، وانعكس ذلك في بيان وزير الخارجية سيرغي لافروف إثر لقائه الحريري، حين أشار إلى أن الحكومة يفترض أن “تحظى بتأييد قوى سياسية أساسية وطائفية في البلاد”، وشدد على “تفاهم القوى السياسية الأساسية ومن دون تدخلات أجنبية”، إلا أن هذا يعني أيضاً أن حكومة “اللون الواحد” على صورة حكومة الرئيس حسان دياب التي تغلِبُ السيطرة عليها لمصلحة تحالف عون – “حزب الله”، أثبتت فشلها وعمّقت أزمات البلد.

وتتساءل بعض الأوساط الدبلوماسية في بيروت عما إذا كانت دعوة موسكو لباسيل يمكن أن تسهم في تليين موقفه من تشكيل الحريري حكومة اختصاصيين بلا ثلث معطل، مقابل إسهامها في إخراجه من العزلة التي يعانيها بفعل تجنب مسؤولين يزورون لبنان لقاءه كما حصل خلال زيارة هيل وقبله وزير خارجية مصر سامح شكري.

لكن مصادر سياسية على علاقة وثيقة بدول الغرب ترى أنه على الرغم من محاولة موسكو الإفادة من بعض فرص الاستثمار في لبنان، وهو أمر لا يروق للأميركيين، هناك تقاطع روسي – أميركي على مصلحة الدولتين في حفظ الاستقرار في البلد، ومنع تفاقم أوضاعه وتأثيرها على الوضع الإقليمي، فالجانب الأميركي يفهم أن لروسيا مصالح في لبنان انطلاقاً من مصالحها في سوريا، وفي كل الأحوال فإن القواسم المشتركة حوله تعبر عنها مواقف “مجموعة الدعم الدولية في لبنان” التي تضم الدولتين والدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن وإيطاليا وألمانيا، والتي تصدر بيانات دورية حول أزمته.

“الفاتيكان” و”الطائف” واعتدال الحريري

أما زيارة الحريري خلال الساعات المقبلة إلى الفاتيكان، فتتجاوز الموضوع الحكومي على أهميته. البابا فرنسيس ليس لديه حلول للأزمة اللبنانية، وكل ما يستطيعه هو تأييد المساعي التي تبذلها دول فاعلة، وهو على اتصال في هذا المجال مع فرنسا ويتابع مبادرتها الإنقاذية، ويهتم لحماية لبنان الرسالة وصيغة العيش المشترك الإسلامي – المسيحي، واهتمامه ينظر إليه من زاوية حرصه على حفظ الوجود المسيحي في المنطقة، والذي تجلى بإعلانه “وثيقة الأخوة الإنسانية” مع شيخ الأزهر في أبوظبي في الرابع من فبراير (شباط) 2019، ثم اجتماعه في النجف، في السادس من مارس (آذار) الماضي مع المرجع الشيعي آية الله علي السيستاني، الذي أكد له اهتمامه بأن يعيش مسيحيو العراق بسلام.

ولا يتعاطى الفاتيكان مع الأزمة الحكومية في لبنان على أنها مشكلة تقاسم حصص بين المسلمين والمسيحيين، الأمر الذي يركز عليه فريق الرئيس عون و”التيار الحر”، فيضع المسيحيين في مواجهة مع السنّة مثلما هو حاصل في خلاف عون والحريري، بل ينظر إلى التعايش على أنه يحتم على الأقليات أن تكون في وئام مع كل المجموعات الأخرى، كضمانة لاستمراريتها بدل الدخول في أحلاف فئوية، فالصراعات السياسية وبعض الأحلاف تنذر بتهديد اتفاق الطائف، ما يؤثر سلباً في الدور المسيحي في إطار تجربة التعايش في لبنان، خصوصاً أن هذا الاتفاق كرس المناصفة بين الطائفتين، واستقبال البابا للحريري على الرغم من أنه ليس رئيس حكومة بعد، يرمز إلى حرصه على التعامل مع الاعتدال السنّي في منطقة يهدد فيها التطرف الإسلامي الأقلية المسيحية. والعلاقة مع الزعيم الأقوى في السنّة استمرارية لعلاقة نشأت بين الفاتيكان وبين الرئيس الراحل رفيق الحريري الذي يمثل هذا الاعتدال، والذي خاطبه مرة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني قائلاً، “أنت المسؤول”، مشيراً بذلك إلى حفظ الصيغة اللبنانية. ويثمن الفاتيكان التلاقي الدائم للحريري مع البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي.

استعصاء الموقف الداخلي

ومع تضافر كل هذه العوامل، يبدو أن استعصاء الموقف الداخلي ما زال يتغلب على الضغوط الخارجية، فتطورات الأيام الماضية برهنت أن عوامل الصراع المحلي الذي يطيل الفراغ الحكومي تغلب على عوامل التقارب في وقت يمر لبنان في أخطر أزمة اقتصادية في تاريخه تهدد مستقبله، وما امتداد الانقسام إلى المؤسسة القضائية عبر تأييد الفريق الرئاسي للقاضية غادة عون في تظاهرات في الشارع ولخطواتها بمساءلة جهات بدا أنها تستهدفها لأسباب سياسية عبر إجراءات خارجة عن الأنظمة القضائية، ثم نزول فريق تيار “المستقبل” في تظاهرات مقابلة تأييداً لإجراء النائب العام التمييزي بكف يدها عن ملفات مالية، سوى مظهر من مظاهر تحلّل الدولة.

كما أن مجاهرة نائب رئيس البرلمان إيلي الفرزلي الذي كان من أشد العاملين لانتخاب عون للرئاسة عام 2016، ثم انفصاله عنه بفعل ما يعتبره تعطيل شروطه لتأليف الحكومة، بدعوة الجيش إلى تسلم السلطة في مرحلة انتقالية وإرسال رئيس الجمهورية “إلى البيت”، إشارة إلى أن السعي إلى حلول وسط باتت شديدة الصعوبة، فالفرزلي يدرك كسياسي محنّك أن التركيبة اللبنانية لا تحتمل نوعاً من الانقلاب العسكري في السلطة، لكن دعوته أقرب إلى الانفعال الضاغط على الفريق الرئاسي كي ينهي الفراغ الحكومي.