الشرق والغرب… معركة إيديولوجية بين الديمقراطية والشمولية


على العالم التحضير من الآن لتلافي “الفناء الاقتصادي” خلال نزالات الحرب الباردة الثانية

عيسى نهاري صحافي @ES_Nahari

كشفت المباحثات الثنائية بين الولايات المتحدة والصين، الشهر الماضي، في ولاية ألاسكا، عن أن الصراع بين القوتين ناشئ من اختلاف قيم البلدين لا تضارب المصالح فقط، وأن إدارة الرئيس بايدن ماضية في اتخاذ موقف أكثر صرامة تجاه بكين، ولذلك، شاهد الناس في جميع أنحاء العالم عبر شاشات الجوال والفضائيات، وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، وهو يحث البلد الآسيوي بلهجة حادة، على الكف عن تهديد “النظام القائم على القواعد الذي يضمن الاستقرار العالمي”، في حين لم يتردد كبير الدبلوماسيين بالحزب الشيوعي الصيني، يانغ جيتشي، في الرد على الاتهامات الموجهة لبلاده بعبارات غاضبة، دعا من خلالها واشنطن إلى التوقف عن محاولات الدفع بديمقراطيتها في بقية أنحاء العالم.

الأيديولوجيا أم الاقتصاد؟

انطلقت الملاسنات العلنية بين الوفدين الأميركي والصيني من قاعة فندقية في الشمال الأميركي، لتتصدر أعمدة الصحف العالمية، وتفجر طوفاناً من التكهنات حول تبعات التصعيد الأميركي تجاه بكين، وإمكانية نشوب حرب باردة ثانية، وهو احتمال يحرض على التفكير بعشرات الأسئلة، منها ما يتناول استعداد العالم لصراع القوى العظمى بعد أن عاش أجواء الحرب الباردة الأولى بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، ومنها ما يثير مخاوف من أن تكون قواعد الحرب الباردة الجديدة مختلفة، بالتالي صعوبة التنبؤ بحجم الخسائر وكيفية تلافيها، وعما إذا كانت العوامل الاقتصادية سترجح وحدها الطرف المنتصر، أم أننا أمام حرب مشابهة للأولى، تنفخ العقائد الفكرية في نيرانها.

بالنسبة للكاتب الأميركي جوناثان شانزر، نائب رئيس “مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات”، فإن الحرب الباردة الثانية ستكون ذات بعدين أيديولوجي واقتصادي. ومن دون أن يستبعد إمكانية حدوث تصعيد عسكري، يؤكد شانزر أن صعود الصين كقوة اقتصادية ثقيلة سيفضي إلى تداعيات كبيرة مع تصاعد المنافسة بين القوى العظمى، لافتاً إلى أن المنافسة بين واشنطن وبكين ستنطوي على “معركة إيديولوجية بين الديمقراطية والشمولية”.

ويقول المحلل السابق لشؤون تمويل الإرهاب في وزارة الخزانة الأميركية في حديثه لـ”اندبندنت عربية”، إن الحرب الباردة السابقة، هيمن عليها خوف من خطر الفناء النووي المتبادل، أما اليوم فيندرج الخوف في ظل المنافسة الحالية بين القوى العظمى، ضمن إطار تلافي الفناء الاقتصادي لدى الطرفين المتنافسين، مضيفاً أن “اقتصادات الولايات المتحدة والصين تواجه مشكلة معقدة”.

ماذا ينقص الاستراتيجية الأميركية؟

يمثل تحييد الخطر الصيني الاقتصادي مهمة معقدة بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها، لأن الأمر يعتمد على قبول بكين لوجهة النظر الأميركية، الداعية إلى الامتثال لقواعد النظام الدولي الذي تقوده واشنطن في آسيا وخارجها. كيف يمكن إقناع الصين، هو السؤال الذي يثير جدلاً مستمراً حول طبيعة النهج الذي يجب أن تتبعه واشنطن لحفظ توازن القوى، وتجنيب العالم صراعاً مدمراً بين القوى العظمى.

في تقرير مطول الشهر الماضي، استعرضت مجلة “فورين بوليسي”، استراتيجيات مختلفة يمكن أن تنهجها الولايات المتحدة لاحتواء التوتر مع الصين، ومنها نظرية التعايش التنافسي التي تمكن البلدين من الازدهار من دون سقوط إحدى القوتين، وهذا النهج يرى أن واشنطن قادرة على تشكيل سلوك بكين من خلال الضغط الجماعي، بالإضافة إلى تقديم الحوافز الإيجابية بدرجة أقل، على أمل أن يضعف الحزب الشيوعي الصيني بمرور الوقت.

وعلى الرغم من أن استراتيجية التعايش التنافسي لن تضمن علاقة متوافقة بين البلدين بحكم المنافسة الاقتصادية المحتدمة، فإنها ستسهم في التقليل من حدة الصراع، لكن ومع ذلك، فهي لن تمكن واشنطن وحلفاءها من التيقن في شأن صدق النوايا الصينية، ومعرفة ما إذا كانت خطوة الصين في الحد من توسعها الجيوسياسي قرار استراتيجي، وليس تكتيكياً لتقليل التوترات بصفة مؤقتة على أمل تفريق خصومها.

ثم هناك النهج التصعيدي الذي يمكن لواشنطن اتباعه لتمديد عمر التنافس بين البلدين، بهدف إضعاف الصين أو إحداث تغيير جذري في طبيعة النظام الحاكم، وتبدو نظرية انتصار الولايات المتحدة في هذا السيناريو مشابهة لتلك التي اتبعتها للتصدي للاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة. وبحسب المجلة الأميركية، فإن المنافسة بهذه الحالة لن تكون حلاً قصير المدى يقود إلى علاقة أكثر استقراراً وأقل عدائية، وإنما ستكون حلاً طويل المدى ينتهي بانهيار قوة الصين أو تغيير نظامها.

وتخلص “فورين بوليسي” إلى دعوة الحكومة الأميركية إلى أن تكون صريحة في شأن استراتيجيتها الخاصة بالصين، مشيرةً إلى صعوبة حشد الالتزام والموارد المحلية اللازمة، إذا هون المسؤولون الأميركيون من حجم المشكلة الأساس. ويشدد تقريرها على أنه في المدى الطويل، من الصعب أن تكون الولايات المتحدة، الطرف المنتصر في منافسة القرن الحاسمة، من دون أن تكون واضحة في شأن ما تحاول تحقيقه.

سلاح الديمقراطية السري

فيما تستنفر الديمقراطيات في بريطانيا وفرنسا على سبيل المثال لا الحصر، لتوسيع نفوذها الاقتصادي والعسكري في قارة آسيا التي أهملت في الماضي القريب وباتت اليوم منطقة محورية، وبخاصة بعد تنامي النفوذ الصيني والاتهامات الغربية لبكين بتهديد النظام الدولي، تثار الأسئلة حول ما إذا كان بمقدور القوى الديمقراطية وفي مقدمتها الولايات المتحدة، حماية النظام الدولي وضمان استدامته.

وعن الحظوظ الأميركية لحسم الحرب الباردة المقبلة مع الصين لصالحها، وأوراق الضغط الملائمة لهذه الحقبة، يقول بريت ستيفنز، الكاتب في صحيفة “نيويورك تايمز”، إن الولايات المتحدة بحاجة إلى إيجاد سلاحها غير المعلن، مذكراً بأن واشنطن وحلفاءها خلال الحرب الباردة الأولى ضد الاتحاد السوفياتي، استفادوا من “سلاح سري” لم تطوره الاستخبارات الأميركية، أو وكالة مشاريع البحوث المتطورة الدفاعية “داربا”، وهذا السلاح هو الشيوعية.

وفي مقالة منشورة “كيف سننتصر في الحرب الباردة الثانية؟”، يدافع ستيفنز عن رأيه في دور الشيوعية في مساعدة الغرب، بالقول إن “الشيوعية أرهقت الدولة الروسية بنظام اقتصادي غير عملي وغير شعبي لم يكن قادراً على مواكبة منافسيه في السوق الحرة”، مضيفاً أن “النكتة الروسية المثالية عن الحياة العملية في جنة العمال”، توضح سبب سقوط نظام امتلك عشرات الآلاف من الرؤوس النووية.

ومن منطلق مباغتة الصين باستراتيجية غير مألوفة، يزعم الكاتب الأميركي أن السلاح السري الجديد الذي تحتاج إليه واشنطن للانتصار في الحرب الباردة الثانية، ليس العقوبات التجارية أو القوة البحرية وغيرها من نقاط القوة المعلنة التي يمكن استخدامها للضغط على بكين، ولكنه الضعف الداخلي الذي يعانيه النظام الصيني ولا يستطيع التخلص منه.

ويذكر ستيفنز في مقالته الداعية إلى استغلال نقاط القوة التي يتمتع بها النظام الصيني وتحويلها إلى نقاط ضعف، ثلاثة مفاتيح رئيسة للاستراتيجية التي يراها ضرورية للولايات المتحدة إذا أرادت الانتصار في الحرب الباردة المقبلة، هي القومية، والمركزية المفرطة، وأخيراً حملة الحكومة الصينية في مراقبة التوجهات الدينية والتحكم بها.

وفيما تعد القومية إحدى الركيزتين الأساسيتين لشرعية النظام الصيني منذ تخليها عن الماركسية الأرثوذكسية، فهي أيضاً تفسر التوترات الصينية مع جيرانها وإنفاقها العسكري المتزايد، إذ ألقت القومية بظلالها على تحركات الدول المجاورة للصين، فاليابان تضع بكين في عين الاعتبار، بينما تعزز قدراتها العسكرية، وأستراليا تسعى للحد من النفوذ الصيني، وفيتنام تستمر في الاقتراب من الولايات المتحدة. وبحسب الكاتب الأميركي، فإن واشنطن ليست بحاجة إلى تشجيع القومية حتى تستفيد منها، لكن بإمكانها أن ترسخ استراتيجيتها لاحتواء الصين من خلال العودة إلى اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي التي انسحبت منها أميركا في عهد دونالد ترمب.

وعلى الرغم من تباهي الصين نهاية العام الماضي، بتسجيلها معدل إصابات منخفض بفيروس كورونا، نتيجة لمركزية إجراءاتها الوقائية، فإن السلطة المركزية المفرطة التي بات الرئيس شي جين بينغ يتمتع بها أكثر من أي زعيم منذ ماو تسو تونغ، وفقاً لستيفنز، قد تلعب دوراً في انهيار النظام الصيني، فضلاً عن تبعات “قمع الحركات الروحية والدينية”.