مأزق العنصرية السياسوية في شرق السودان!


طريق ملكي للحرب الأهلية والخراب في الإقليم طال الزمن أم قصر

محمد جميل أحمد كاتب صحافي من السودان 

هناك إسقاط متخيل لفكرة المواطنة في السودان تحوله بعض الجماعات السودانية (على الرغم من حداثة فكرة المواطنة وشمولها) إلى مزيج من امتياز تاريخي مخصوص (انتشر أخيراً بطرق قبائلية فجة) لها من دون جميع السودانيين، حتى بدت تلك التصورات المأزومة عن هوية المواطنة، بحسبانها امتيازاً قبائلياً، تصوراً يقينياً يقبع في العقل الباطن لتلك الجماعات، إلى جانب سرديات تدعيها ما تسمى شعوب السودان القديمة، كالنوبة والبجا (على ما في هذه المكونات ذاتها من سرديات نافية لبعضها البعض). 

وكان أسوأ ما حدث من استقطاب في السودان بعد الثورة، هو بقاء أثر تفاعلات سالبة خلفها تصميم نظام عمر البشير، الذي سيس الكيانات القبلية، وأدخلها في إدارة الشأن العام، معبراً بذلك عن نمط لا واعٍ من أسلوب لـ”القدامة” أقر في بنيته الأيديولوجية كنظام إسلام سياسي نشأ وعيه التأويلي المضلل في فهم الإسلام من ثقافة النص، لا ثقافة التاريخ، ومن ثم أصبح ما يعيشه السودانيون اليوم بعد سقوط نظام الإسلام السياسي من تشويش في وعي الهوية هو الوجه الآخر لعجز جماعاتهم المحلية عن تكييف فهمها لهوية المواطنة السودانية من خلال أطر قبائلية ضيقة كانت هي الحصاد المر لتجريب حكم أيديولوجياً الإسلام السياسي وفوضاه. 

اليوم، في سودان ما بعد الثورة، وبخاصة في شرقه، ينشط وعي شعبوي هو بمثابة امتداد لأزمة تعكس ضرباً من العجز عن رؤية وعي المواطنة في إطارها الدستوري والجيوسياسي الصحيح عبر مزجها باعتقاد قبائلي قروسطي يدمجها بمفهوم حيازة الأرض. والمفارقة في هذا الوعي الشقي، أن هناك جماعة سياسوية شعبوية عنصرية في شرق السودان (تنشط في صفوفها حفنة من حملة دكتوراه وبروفسورات تحت إمرة ناظر قبيلة للأسف) تستبطن هذا الوعي الشقي، وتحاول تسويق هذا المزيج التافه من النمط الاحتكاري القبائلي للمواطنة في شرق السودان مستهدفةً به جزءاً من مواطنيه (من البجا تحديداً) بنفي بجاويتهم ومواطنيتهم عبر محاولات دؤوبة لا تفتر، وغرض مكشوف من قبل تلك الجماعة الشعبوية لتصوير أولئك المواطنين في وسائط التواصل الاجتماعي وبعض قنوات التلفزة كما لو أنهم في جملتهم أجانب، أو أنهم فئة صغيرة جداً لا بد أن تخضع لتطويبهم في إعادة تعريفهم للسودانيين عبر توهم مريض يتبنى أسلوب الوصاية في زمن الثورة. 

لكن الحقيقة التي تتكشف لكل متقصٍ للحقائق حول الهوية الاجتماعية لنشاط سكان شرق السودان من البجا في العقود الأخيرة هي أن أسلوب السياسوية الشعبوية لبعض أبناء “البداويت” في المزايدة على أولئك المواطنين البجاويين، محاولة للتعمية عن حقائق واقع اجتماعي تاريخي فظيع ومتأخر لطبقات كثيرة في مجتمع تلك الجماعة السياسوية “البداويت” كان هو الأجدر بتسليط الضوء عليه، ونقد كل الإعاقات التي تجعل منه نمطاً عائقاً حقيقياً وخطيراً أمام اندماج “البداويت” في التعليم والمجتمع والحياة المدنية الحديثة. 

لنكن واقعيين، ولنضع النقاط على الحروف في موضوع نظن أنه إذا لم تقم الدولة السودانية بواجبها فيه، كدولة مواطنة تأخذ مسافةً واحدة من كل مواطنيها ومن جماعاتها القومية والإثنية، وعبر تشريعات قانونية وجزائية نافذة، فإنه عاجلاً أو آجلاً سيفجر الأوضاع في شرق السودان على نحو خطير. 

وكما يقول وزير الدعاية النازي غوبلز “اكذب اكذب حتى يصدقك الناس”، يحلو للبعض (ومن هذا البعض في شرق السودان حاملو درجة الدكتوراه للأسف) الوصف المستمر وبصورة مرضية مزمنة وممجوجة، لمجموعة بني عامر والحباب (وهم المكون السكاني الثاني للهوية البجاوية في شرق السودان) في جملتهم بأنهم لاجئون، مع استدراك بسيط يصاحب هذا الوصف (يأتي دائماً كاستثناء منسي في الحديث) لجزء صغير منهم يعيش على الجيب الحدودي، ويتم تصويره كملحق يحتاج دائماً إلى إعادة تعريف من قبل تلك الجماعة العنصرية لـ”البداويت” عبر استعلاء وصائي يكون الهدف منه الإيحاء بأنها وحدها لها الحق في إعادة تعريف بني عامر والحباب كسودانيين؟! 

والحقيقة، حين نأتي إلى تفكيك هذه الأغاليط المضللة، سنجد أن الذي يلعب دوراً كبيراً فيها هو انعكاس الرؤية الانعزالية لنمط تفكير أولئك الذين يتصورون أن حقوق ملكيتهم التاريخية على أراض في شرق السودان تخولهم الحق في إعطاء وسلب المواطنة لمواطنين سودانيين آخرين يملكون مثلهم أرضاً تاريخية في شرق السودان (ولو كانت شبراً)، لكن للأسف أن تلك النظرية العنصرية التي تعتمد في فهمها للمواطنة والوطن على أفكار الحيازة القبائلية للأرض بطريقة “أرضي أكبر من أرضك” هي في تقديرنا نظرة لا يمكن أن تفارق بعضهم حتى ولو نالوا من درجات الدكتوراه في التعليم نتيجة للطبيعة الانعزالية التي هيمنت على بنية عقولهم، وهي بطبيعة الحال طريقة تستبطن تفكيراً لا يعترف بالمواطنة ولا الحقوق الدستورية ولا الحدود السيادية للدولة وسلطتها. وإذا أصروا على عدم تغيير طريقتهم المأزومة تلك وظلوا يعبرون عنها باستمرار في إقصائهم لمواطنين آخرين (بل مواطنون بجاوييون مثلهم) ستؤدي في النهاية، وبالضرورة، إلى حروب أهلية في شرق السودان. 

وبمزيد من التفكيك لتلك التفاهات (التي لا تستحق حتى إن يطلق عليها سرديات) سنجد تناقضاتها واضحةً. فمثلاً، حين يدعون إلى مراجعة الهوية الوطنية بحق مجموعة محددة في شرق السودان في حين أنهم لا يؤمنون أصلاً بفكرة الوطن إلا بوصفه حيازة أرض لقبيلة! أو حين يتحدثون عن المواطنة وهم لا يفهمون معناها إلا بوصفها انتماءً قبلياً، أو حين يزايدون على بجا آخرين في شرق السودان فيصف هؤلاء العنصريون أنفسهم كسودانيين بينما هم في جملتهم لا يعكس نمط حياتهم الانعزالي اندماجاً في مجتمع الوسط السوداني، ناهيك بأي مساهمات وازنة تعكس طبيعة اندماجهم في المجتمع السوداني عبر إنتاج معرفي أو فني أو إبداعي إلا في مستويات قليلة لا ترتقي إلى مستوى النسبة والتناسب المفترضين لوجودهم التاريخي والسكاني في السودان. 

وعلى ضوء هذه الرؤية الانعزالية التي تفسر لنا نمط تفكير تلك المجموعة السياسوية الشعبوية المتعنصرة لبعض “البداويت”، سنجد مصداق ذلك في التسريبات الموثقة حول طبيعة مفاوضاتهم مع الحكومة السودانية منذ أشهر. فهي مفاوضات كانت تعكس تلك الهوية الانعزالية لفهمهم قضايا المواطنة والسلطة والدستور والدولة، فكانوا أثناء مفاوضاتهم مع الحكومة ومسؤولي الدولة يعترضون على تعيين فلان الفلاني في أي منصب إداري بشرق السودان لأنه غير بجاوي مثلاً، أو يدعون أنه أجنبي (بحسب رؤيتهم الانعزالية تلك بالطبع) ضاربين عرض الحائط بقيم المواطنة وحقوقها المكفولة لجميع السودانيين في تولي أي منصب في أي ولاية من السودان، وناسين بأنهم يتفاوضون مع حكومة لها سيادة في حكم وطن له حدود ودستور، ولهذا حين كان أولئك العنصريون من تلك الجماعة الشعبوية يعترضون على تعيين فلان ما، كان المسؤولون يحاججونهم بأن ذلك ليس من شأنهم، وإنما عليهم فقط طرح مطالبهم المشروعة.

وعلى ضوء ذلك أيضاً سندرك ما يفسر لنا تساهل تلك الجماعة الشعبوية العنصرية من “البداويت” مع كل من كان من أبناء قبائلهم جزءاً من نظام البشير نتيجة لفهمهم الأعوج الذي لا يكترث أخلاقياً لمفارقة أن يكون واحد من قبيلتهم جزءاً من نظام البشير الفاسد (مثل موسى محمد أحمد الذي كان حتى سقوط البشير في 11 أبريل (نيسان) في منصب مساعد رئيس الجمهورية)، ثم يطمح اليوم، مع ذلك، إلى أن يكون جزءاً من المشهد الجديد بعد الثورة!

لقد بدا واضحاً أن غلبة ذلك الفهم الانعزالي في أوساط بعض أبناء “البداويت” بقي سمةً عامة حتى لبعض من يحملون درجات علمية عليا كالدكتوراه، لأن المصيبة هي في الفهم، وليست في الدرجات العلمية. 

علينا أن ندرك أن هذه الطريقة من نمط التفكير والفهم الانعزالي لقضايا الحقوق في شرق السودان وبين مكوناته السكانية، لن تجلب لشرق السودان إلا الدمار والخراب. إن الذين يريدون أن يوهموا الناس بأن شرق السودان حيازة خاصة بهم، بعيداً عن حقوق المواطنة لجميع سكانه، مشككين في جنسيات البعض بطريقة هي أقرب إلى أخذ القانون باليد من خلال الحديث ليلاً نهاراً عن مراجعة الجنسية وحدود القبائل والرقم الوطني، وكأن تلك المهام مهام حصرية بهم كقبائل من دون إشراف الدولة ودستورها وقوانينها؛ إنما يكشفون بذلك عن رؤيتهم الانعزالية المفضوحة ووعيهم القبائلي المأزوم والخطير. 

ربما كان الأولى بمثل هؤلاء الذين يحملون شهادات علمية ويعبرون عن ذلك الوعي الشقي، أن يعملوا على تغيير نمط حياة أصبح معروفاً بتأخره في بوادي “البداويت” من خلال بيئة انعزالية طاردة للتعليم، وأسهمت بكفاءة في زيادة جيوش الفاقد التربوي الذي أفرخ أعداداً كبيرةً من فاقدي التعليم بينهم. وبدلاً من خوض المعركة في مواجهة الذين يريدون تأبيد تلك الحالات العاطلة في بوادي “البداويت”، عبر السعي لتغيير نمط الفهم المأزوم إلى فهم يدفع إلى قبول الآخر والاندماج في التعليم وخوض مشاريع عملاقة لتغيير نمط حياة بوادي “البداويت” وانتشالها من ثالوث الجهل والمرض والفقر، أقول بدلاً من ذلك أصبحت هموم أمثال بعض هؤلاء الدكاترة مشغولةً بالإساءة إلى مجموعة بني عامر والحباب في جملتهم ووصفهم بأنهم غير سودانيين!

وفي تقديرنا أن جزءاً من أسباب تلك الحملة المكشوفة تعزى إلى التغيير الكبير الذي حدث في أوساط قبائل بني عامر والحباب في شرق السودان نتيجة لتوسع التعليم في أوساط الكثيرين منهم وحصولهم على شهادات عليا في مختلف التخصصات وانتشارهم في سوق العمل بمدن شرق السودان، نتيجة لانفتاحهم على المعرفة ولنمط حياتهم الإيجابي المندمج في مجريات الحياة المدنية الحديثة. 

بطبيعة الحال، يدرك المسؤولون السياسيون والدستوريون في المركز طبيعة الوعي الشقي والمأزوم الذي يعكس الخطاب السياسوي لتلك المجموعة السياسوية الانعزالية، فأمرهم على مستوى السلطة والإدارة المركزية للدولة أصبح مكشوفاً. 

لكن، علينا كشفهم وفضح منطقهم المتهافت والمأزوم، أمام الإعلام، خصوصاً في ظل واقع ثوري جديد؛ هم أولئك الأدعياء من حملة الدكتوراه ومدعي المعرفة بالتاريخ والسياسويين العنصريين الذين يملأون مواقع التواصل الاجتماعي ضجيجاً، يجمعهم وعي طفولي مأزوم عن الهوية والأرض والمواطنة؛ وعي كشف عن أن غلبة الفهم القبائلي في عقلهم الباطن ظل هو المسيطر على موجهات سلوكهم وتعبيرات كلامهم، فأصبحوا بذلك أبعد الناس عن وعي فكرة الوطن والمواطنة والحدود السياسية وسيادة الدولة الحديثة. وإلا إذا كانت لهم ذرة وعي حديث بتلك المفاهيم لما جاهروا بإقصاء من يتشارك معهم في الوطن وفقط بحجة أن أرضهم القبلية في الإقليم أكبر من أرضه، وزايدوا عليه باتهامات عمومية مخلة بقيمة الشراكة والمواطنة. 

إن الذين هم أعجز من أن يفهموا القيم الحديثة للمواطنة والوطن والدولة والدستور والقوانين والمواثيق الدولية التي تنظم وجودهم في دولة ما، كأمثال أولئك العنصريين الانعزاليين في شرق السودان، هم في الحقيقة سيصبحون مأزق الدولة الوطنية الخطير في المستقبل المنظور. وبطبيعة الحال، فإن مأزقاً كهذا لا يمكن أن تتعايش معه أي دولة منتمية إلى العصور الحديثة، كالدولة التي يحلم بها هذا الجيل الذي قام بالثورة في السودان. 

لهذا، نقول للمسؤولين السياسيين والدستوريين السودانيين ولجميع المهتمين بقيم الثورة السودانية: إذا ما انتشر هذا الفهم القروسطي الذي يعبر عنه وعي المجموعات العنصرية الشعبوية في شرق السودان عن ملكيات الأرض وحيازتها كمعيار للمواطنة؛ وظل فاعلاً في نشاط كيانات محلية تدعي ممارسة العمل السياسي؛ يمكننا القول بكل ثقة إن النتيجة الحتمية لذلك الفهم المأزوم، في غياب أي تشريعات قانونية، ستكون طريقاً ملكياً للحرب الأهلية والخراب في شرق السودان، طال الزمن أم قصر.