الانحياز القاتل للبنان: المولود مدولا ومحايدا


مطلوب له أن يبقى في حرب دائمة عنوانها الخروج على الغرب الأميركي والأوروبي من أجل “التوجه شرقا”

رفيق خوري كاتب مقالات رأي

لبنان الكبير ولد مدولاً في مؤتمر فرساي بعد اتفاق “سايكس- بيكو” في الحرب العالمية الأولى. حتى قبل ذلك أيام السلطنة العثمانية، فإن تنافس الإمبراطوريات رافق إدارة فخر الدين التي حالفت توسكانة وامتدت إلى حلب. أما الإمارة الشهابية، فإنها انتهت، لا بقوة “عامية انطلياس” بل بتبدل المواقف الدولية من حملة إبراهيم باشا العسكرية بدعم فرنسي ضد السلطنة. نظام القائمقائمتين كان اقتراح مترنيخ مستشار النمسا. نظام المتصرفية كان في حماية الدول الكبرى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر: فرنسا، بريطانيا، روسيا، بروسيا، النمسا، والسلطنة.

لبنان الاستقلال عام 1943 وُلد محايداً سلبياً: اتفاق على معادلات لا حماية ولا وصاية. لا شرقية ولا غربية. لا انحياز ولا موقع ممتازاً. مع العرب حين يتفقون، وعلى الحياد حين يختلفون. أما الاهتزازات والمتاعب، فإنها رافقت أنواع الانحياز، وتشابكت فيها الأسباب المحلية والأسباب الخارجية.

الاهتزاز الأول جاء على شكل “ثورة بيضاء” عام 1952 وفق ما سمي حكم “المزرعة” والفشل في بناء دولة الاستقلال، إذ استقال الرئيس بشارة الخوري، وهو يدرك لعبة الإنجليز ويتحدث بسخرية رمزية عن “رذالة الطليان”.

الاهتزاز الثاني، قاد إليه التسلط الداخلي والانحياز إلى مشروع أيزنهاور وحلف بغداد في عز ارتفاع الموجة الناصرية في المنطقة، فكانت أحداث 1958 الدامية التي انتهت بنزول القوات الأميركية في بيروت والتفاهم بين الرئيس أيزنهاور والرئيس جمال عبد الناصر على اختيار قائد الجيش الجنرال فؤاد شهاب لرئاسة الجمهورية. شهاب حمى لبنان من الاهتزاز بسياسة التوازن في العلاقات العربية والدولية، على الرغم من المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قام بها الحزب السوري القومي.

الاهتزاز الثالث العنيف قاد إليه “اتفاق القاهرة” واندفاع المنظمات الفلسطينية نحو لبنان بعد “سبتمبر (أيلول) الأسود” في الأردن، وتحويل الوطن الصغير إلى قاعدة للكفاح المسلح ومنصة لإطلاق الصواريخ على إسرائيل لتحرير فلسطين. وهكذا بدأت حرب لبنان عام 1975 ولم تتوقف إلا عام 1989 بعد اتفاق الطائف. وبين هذين العامين تدخلت سوريا وغزت إسرائيل لبنان، وتعددت وجوه الحرب المحلية والعربية والإقليمية والدولية بالتدخل المباشر وغير المباشر.

والأزمة العميقة اليوم، التي لها أسباب وأخطاء وسياسات داخلية قاهرة، تزداد تعقيداً بسبب الانحياز إلى محور “الممانعة والمقاومة” الذي هو عنوان للمشروع الإقليمي الإيراني المعادي للغرب والمشتبك على العرب. فنحن، وسط الهوة الوطنية والسياسية والمالية والاقتصادية والاجتماعية التي دفعتنا إليها التركيبة الحاكمة والمتحكمة بنا، في حرب أهلية باردة وقطيعة مع العرب والغرب. والاستعصاء ليس في تأليف حكومة لإخراجنا من الهوة وإجراء إصلاحات تفتح الباب إلى مساعدات الأشقاء العرب والأصدقاء الدوليين فحسب، بل أيضاً دفع المسؤولين إلى التوقف عن الانحياز إلى المشروع الإيراني، أقله بالعودة إلى سياسة “النأي بالنفس”.

لا قدرة على وقف المسار الانحداري. ولا أحد يعرف ماذا يفعل في نهاية هذا المسار، بمن في ذلك من يقول إنه يملك خطة ويعمل لها. فالبلد المأزوم المفلس مهدد بفتنة طائفية ومذهبية يقول الجميع إنهم حرصاء على تجنب الوقوع فيها. ومهدد بحرب إسرائيلية بحجة القضاء على أكثر من مئة ألف صاروخ يملكها “حزب الله”، بينها صواريخ دقيقة جداً، وكلها إيرانية. مطلوب منه أن يكون “ورقة” في ملف مفاوضات بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران ضمن لعبة جيوسياسية كبيرة في الشرق الأوسط بين عدد كبير من اللاعبين على المستويين الإقليمي والدولي. ومطلوب له أن يبقى في حرب دائمة عنوانها تحرير فلسطين من البحر إلى النهر والخروج على الغرب الأميركي والأوروبي وإخراجه عسكرياً وأمنياً وحتى سياسياً من “غرب آسيا” من أجل “التوجه شرقاً”.

كل ذلك، وسط العمى الاستراتيجي في التركيز على الصورة بدل المشهد، والتوقف أمام الشجرة التي تحجب الغابة. فالمنطقة في مرحلة تحولات ولا قوة واحدة تستطيع إدارتها. والمشهد في لبنان مرتبط بالمشهد في سوريا والعراق واليمن. وكما قادت العولمة إلى القبلية والإثنية، فإن هناك مثل روبرت كابلان من يرى أن القرن الحالي هو قرن العودة من “الدولة- الأمة” إلى “الدولة- المدينة”. وما يتنبأ به خطير جداً، وإنه ما من لبنان كبير بل “بيروت الكبرى”، ولا سوريا كبيرة بل “دمشق كبرى”. والأخطر هو الطموح إلى “إمبراطوريات إقليمية” بعد سقوط الإمبراطوريات العالمية، بحيث تتسابق إيران وتركيا وإسرائيل إلى ما يتجاوز النفوذ في العراق وسوريا ولبنان وبقية المسرح العربي.

حتى أوروبا، فإنها تواجه مشكلة سماها جوزيه مانويل باروسو “فيدرالية خوف”. وما يخيفنا أسوأ وأخطر بكثير.