لا شيء يجرد حياة أي بلد من غناها ويدفعها تحت خط الفقر الروحي والثقافي أكثر من الاستغناء عن التاريخ
رفيق خوري كاتب مقالات رأي
ليس في التاريخ خط فاصل بين الحضارات. ولا شيء يجرد حياة أي بلد من غناها ويدفعها تحت خط الفقر الروحي والثقافي أكثر من الاستغناء عن التاريخ. هذا ما أعاد تذكيرنا به مشهد الموكب الملكي لنقل المومياوات الفرعونية من المتحف المصري إلى متحف الحضارة الجديد في القاهرة. مشهد جمالي فني مشغول بحرفة عالية ومعبّر عن الانتساب إلى حضارة لا تموت. وإذا كانت مصر “هبة النيل” بحسب القول الشهير، فإنها وهبت البشرية ما هو خالد على مدى العصور. أبو الهول الصامت، لا صوت يعلو على صمته المتأمل في الوجود. الأهرام معجزة هندسية تتحدى مهندسي هذا العصر وما في أيديهم من آلات متطورة. والمومياء “الحية” منذ آلاف السنين بفضل المهارة في فن التخطيط الفرعوني، أين منها جثمان لينين المحنط في الكرملين منذ 100 سنة والمقترب من الانحلال؟
يقول وليم فوكنر، “الحاضر بدأ قبل 10 آلاف سنة، والماضي بدأ قبل دقيقة. الماضي لا يموت ولا هو حتى ماضٍ”. ومشكلة أميركا أنها بلا تاريخ. متاحفها تضم الماضي القريب والحاضر وتصور المستقبل. ولا أشياء قديمة إلا في متحف الهنود الحمر، مع أن أميركا تريد الهرب مما فعله بالهنود الحمر المستوطنون الذين جاؤوا من أوروبا. أما مشكلة أوروبا التي يراها المؤرخ بول جونسون “قارة مريضة” فهي أنها “تخلت عن تاريخها المولود من زواج ثقافة إغريقية- رومانية- مسيحية”. وأما مشكلة الشرق الأوسط ومناطق أخرى في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، فإنها ممارسة أمرين متناقضين هما في النتيجة وجهان لعملة واحدة خطيرة ومؤذية: دعوات إلى القطع مع الماضي تحت عنوان الحداثة، وتفضيل العيش في الماضي تحت عنوان الأصالة. وليس هذا قدراً أو خياراً لا خيار سواه.
ذلك أن من الوهم إلغاء التاريخ. والوهم الأكبر هو استعارة ثياب التاريخ أو الذهاب إلى تزوير التاريخ وتلفيقه. فكيف نتصور اليونان من دون الإغريق والأساطير وفلسفة سقراط وأفلاطون وأرسطو ومسرح التراجيديا والكوميديا وإلياذة هوميروس والأوديسة؟ وكيف نرى العراق بلا حضارته السومرية والبابلية والأشورية وقوانين حمورابي ومراسيم سرجون الأكادي الذي ألغى المحاكم الدينية وأحدث المحاكم المدنية؟ كيف نرى لبنان وسوريا وفلسطين من دون الكنعانيين والفينيقيين والأنباط واختراع الحرف وما بنته زنوبيا ملكة تدمر؟ أي روما، على رغم العظمة الإمبراطورية، من دون فرجيل وجوفينال؟ أليس ما عادت إليه الصين بعد ماوتسي تونغ و”الكتاب الأحمر” و”الثورة الثقافية” هو كونفوشيوس وتعاليمه حول “الحياة النظيفة”؟ كيف ننظر إلى المكسيك وبلدان في أميركا اللاتينية من دون حضارة “الأزتيك”؟ جواب الفيلسوف كيركغارد هو أنه “لا يمكن فهم الحياة إلا بالنظر إلى تاريخنا”. وجواب الروائي الفرنسي أندريه مالرو صديق الجنرال ديغول ووزير الثقافة في عهده هو: “تعلمت من الآسيوي البعيد درساً مهماً: قراءة الآخر هي المدخل الصحيح لقراءة الذات”.
حين أصدر صامويل هانتنغتون كتاب “صدام الحضارات” قوبلت نظريته بموجة واسعة من النقد في الغرب ومعظم الشرق، وبارتياح في أوساط التيارات الأصولية. كان الرد في الغرب ومعظم الشرق هو أن الحضارات لا تتصارع بل تتجاوز وتتكامل، وما يتصارع هو المصالح والسياسات. وكان سبب الارتياح لدى التيارات الأصولية هو أنها تمارس بالعنف مواجهة المختلفين معها سواء في الأديان الأخرى أو في الدين نفسه الذي تحارب باسمه. فالأصوليات، كما قال محمد أركون، “تحوّل الدين أيديولوجيا سياسية”. هكذا فعلت “القاعدة”. وهكذا فعل “داعش”. وهكذا فعل “الإخوان المسلمون” قبل الجميع، بحيث وصف سيد قطب حياة العرب والمسلمين الحالية بأنها “جاهلية جديدة”. وهكذا فعل “طالبان” حين عمدوا إلى تكسير تمثال بهذه الضخامة شمال أفغانستان.
الفارق كبير بين غربلة التراث للإبقاء على الثابت والملهم فيه وبين “تقديس” التراث والعيش فيه والنظر إلى أي تطور بالقياس إليه. فنحن عراة من دون التراث الحضاري والثقافي. وعراة أيضاً في ثياب ما هو في حكم البالي والعابر من التراث. ولا نستحق أي تراث إن لم نكمله بالإبداع الأدبي والعلمي. لا بل إن التاريخ يسخر منا حين نكون دون مستوى ما نعتز به من التراث.