ليلة القبض على عروبتنا . بغداد شاشة خضراء #ذكرى سقوط #بغداد

نور الدويري تكتب

أذكر ليلة تقف بين الشتاء والصيف من أبريل عام ٢٠٠٣ حين كنت أرابط على حدود النوم في غرفتي الصغيرة لأمنعه من زيارتي مدة أطول ، أقامر على قدرتي بالإستيقاظ نشطه، وخلال محاولاتي لمراوغة النوم والتصدي له بعناد مراهقة فضولية اغالظ امي و(اتزانخ) عليها كعادة زهرة يانعه تتبجج فخرا على جذع شجرة زهر معمرة .

استوقفني نبرة غضب والدي وكأنها رياح عاصفة مثيرة الفزع في نفسي بطريقة لم اعتد عليها من والدي مطالبا الجميع بالسكون المطبق ! فصمت كياني الفتي وهدىء عقلي تماما حتى أن ثرثرتي ضبضت كلماتها في نفسي وأغلقت فمي تماما .

فيما عيون والدي تائهة في جهاز المتحكم يقلب التلفاز باحثا بين بضعة قنوات حينها عن ملاذا للاطمئنان يسكن أعصابه المتوترة والتي بدأ وكأنها تكاد تقتلع من جذورها لتنهار صلابة والدي أمامي فجأة .

شعرت لحظتها بخوف يتسرب لأوردتي في جسدي النحيل وكأن محلولا باردا جدا حقن في جسدي حد إشعاري بالارتعاش .

جلست قرب التلفاز على أريكة سوداء صغيرة أطالع التلفاز لأفهم غضب والدي وضياع عينيه ولهفة دقات قلبه التي أسمعها تتسارع وهو يتمتم (الله يقويك يا صدام حسين ) وهو يصك على أسنانه وغمرة القلق تعلو جبينه منبها كل أركان البيت أن يتوقف عن التنفس !!… أخيرا أوقف الشاشة على قناة الأردن الرسمية حيث كان لون الشاشه أخضرا قاتما لا يشبه الخضرة الجميلة في شيء ، لون قميء .

وكتب أسفل الشاشة ( من مطار بغداد) ! … بدأت افهم غضب والدي وأدركت ان التهديدات الأمريكية باتت أقرب بنيرانها لإسقاط بغداد ، لطالما تربينا وعرفنا ان العراق رمز للعروبة .أختلف العرب أم اتفقوا فقد كان العراق بطاقة قوى عربية توازي الفيتو أمام ديناصورات الخارج، أدركت حينها أن مصدر قوتنا العربية وآخر معاقل الحزم بدأت تميل ميلا ربما ستوقعنا جميعا لاحقا، وهذا ما كان فعلا ! .

رغم صغر سني وقتها وطيشي فكري إلا أنني كنت أجد بعضا من الشغف في قراءة ومتابعة الأخبار الكافية والتي أدركت معها أهمية العراق باللعبة السياسية العربية والدولية.

تهديدات طالت بغداد الشموخ وتهدد أمن العراق كثيرا وإتهامات جزاف طالت شموخ نخيلها وإدعاءات تحث على التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل وتهديد بوش الصريح للعراق ، لكن هل فعلا ستسقط بغداد الليلة !!! كنت أراقب اسوة بوالدي الشاشة القاتمة، والصمت يعشش في أركان البيت مكتفين بسماع بهمهة والدي وصوت شاشة التلفاز .

الفكرة اليتيمة التي دارت براسي كيف ستنجو المنطقة أن سقطت بغداد فهذا نبأ حاسم لبداية احتراق المنطقة و سنسقط تباعاً… . بدأ صوت القصف يعلو من الشاشة الخضراء في تأكيد على ضرب بغداد .

ووجه والدي أصبح عابسا أكثر حتى كدت أقسم أنني شهدت بلمعان عينيه دموع تنتظر مغادرتنا الغرفة لتتساقط وحدها فهذه دموع القومية بتوقيع رجل شرقي لا تسقط ولا يجب أن تسقط أمام أحد .

بعد بضعة ساعات من تأكد القصف أدركنا أن نخيلها المتجذر بجذور صلبة تكاد تخترق الأرض من ضفاف الفرات حتى صحراء المغرب وصولا للبحر الأبيض المتوسط وكأنها تعانق الخريطة العربية بطريقة ما ذبل وأنحنى حزنا.

في العراق نهرا طويل شهد حضارات عظيمة لا تموت فكم تساقطت فيه دموع الحرب والسلم الحرية والأمل التي مرت منه بحثا عن الحرية فإن سقطت بغداد اليوم لكنها ستنهض غدا .

وسقطت ليلتها بغداد فعلا ! اليوم مر على هتك عرض العرب أكثر خمسة عشر عام أنتشرت منذ حينه ريح صفراء ضربت المنطقة و فقدنا منذ وقتها كل شيء (الرمزية ، القوة، الإتحاد ،الوطنية، القومية ، الأمن، الشرعيه، الحق ، الإنسانية …) ولاذت الأخوة العربية للفرار واستوطن برزخ الشهداء والقدسين في علين، حتى الدين صار تجارة في أقليات ما رحمت طفلا ولا كهلا ولا حتى ضعيف.وحل مكانها ( السخط ، الدم البارد ، الثورات الفاشله ، الزور والإدعاءات ، دعايات متمدنه تؤرخ الباطل و تسحق الحقيقه بأقلام عربية مأجورة، إنهيارات إقتصاديه وفساد صار وظيفه محترمه و رياح الجوع والفقر صارت رايه عربية… ).

وهاهي المنطقة تحترق حرفيا بالجوع بالقهر بالغضب بالتوتر والقلق وصفقات تحاك وصفات الدمار طالت حتى بيروت الصغيرة الجميلة وكأن الوقت توقف بعد سقوط بغداد وطن الأحرار والعلماء … اعواما مرت اذهلتنا دمارا وحروبا وجوعا وإرهاب فتناثر رماد النخيل في شوارع بغداد وأطواق الياسمين الشامية عانقت الموت في سوريا المجد حتى فاحت رياح الطاعون في اليمن المكلوم.

حتى قناة السلوى مر عليها زمنا لا سلوى فيها مبعدة قطر قطرة أخرى حتى الرياض الناسك لمكة ترعاها وقفت مدهوشة بغيوم المطر الأسود من حولنا .وعمان قطفت مزيدا من الصبر والقهر اسوة بالقاهرة و طرابلس المفجوعة قهرا، حتى الرباط وتونس أعلام القمه الاثنين والعشرين تنكست في عيون شعوب عربية تعيش على ذكرى مجد الضاد . وسقطت بغداد …

#إعادة_نشر#نور_الدويري#جرعة_زائدة