ما تداعيات انسحاب القوات الأميركية من العراق؟


نفوذ إيران سيتزايد والصين وروسيا ستجنيان فوائد وصورة أميركا القوية ستهتز

طارق الشامي صحافي متخصص في الشؤون الأميركية والعربية

على الرغم من تأكيدات المسؤولين الأميركيين والعراقيين بسحب الوحدات المقاتلة الأميركية من العراق، فإنه لم يتم الاتفاق على موعد محدد لهذا الانسحاب، بينما يشير مسؤولون عراقيون إلى احتياجهم إلى الأميركيين في تدريب العراقيين وتقديم المساعدات الأمنية. لكن، مخاطر الانسحاب الأميركي الجزئي من العراق بدت هائلة، ما دفع عدداً من العسكريين والباحثين إلى التحذير من أن الانسحاب سيكون خطأ استراتيجياً كبيراً ستدفع ثمنه واشنطن فيما بعد، فما المخاطر؟ وهل يمكن أن توقف انسحاب القوات الأميركية بالفعل رغم تأكيدات الرئيس الأميركي جو بايدن ومن قبله دونالد ترمب ضرورة إنهاء الحروب الأبدية؟

سبب التحول

تتطلع إدارة الرئيس جو بايدن إلى انسحاب نهائي للقوات الأميركية من العراق مع زيادة قدرة قوات الأمن العراقية، وتراجع خطر “داعش” حتى لو لم يكن هناك جدول زمني محدد بشأن الانسحاب، وفي وقت يجري فيه وزير الدفاع لويد أوستن مراجعة عالمية للقوات الأميركية، بالنظر إلى حجم ونطاق ومهمة انتشار القوات في جميع أنحاء العالم.

لكن، أنباء الانسحاب الأميركي التي جاءت مع أول حوار استراتيجي مع العراق تحت إدارة بايدن تزامنت مع إطلاق الجماعات الشيعية المرتبطة بإيران صواريخ بشكل شبه يومي على قواعد القوات الأجنبية في العراق، لإجبار الولايات المتحدة على الانسحاب الذي أمر به الرئيس السابق دونالد ترمب في الأشهر الأخيرة له في الحكم، ومع ذلك فإن القرار كان نتيجة طبيعية لتوافق صناع السياسة في واشنطن لإنهاء حربين طويلتين استنزفتا الولايات المتحدة عقوداً في كل من العراق وأفغانستان.

قوة صغيرة

وفي دراسة لمؤسسة راند في واشنطن، خلص باحثون إلى أن دعم عراق مستقر يصب في مصلحة الولايات المتحدة المستمرة على المدى الطويل، وأن هذا لا يتطلب استمرار مهمة القوات القتالية في العراق على المدى الطويل، لكنه يتطلب الحفاظ على قوة صغيرة من المستشارين العسكريين للمساعدة في تدريب وتطوير القدرات العسكرية العراقية حتى يتمكن العراق من الدفاع عن نفسه.

ونصح الباحثون بأن تواصل الولايات المتحدة دعمها الفعال لتنمية الاستقرار والديمقراطية في العراق، وتحقيق التوازن الأمثل بين مخاطر وفوائد سحب محدود للقوات أو عدم سحبها، فضلاً عن الحفاظ على مهمة استشارية دائمة، للمساعدة في تطوير قوات الأمن العراقية ومساعدة الجيش العراقي على تحسين العلاقات المدنية العسكرية بمرور الوقت.

لكن، ما عواقب الانسحاب الأميركي من العراق على استراتيجيات وسياسات الولايات المتحدة؟

عواقب الانسحاب

شهد المجتمع الأميركي عديداً من الآراء المؤيدة والمعارضة للانسحاب من العراق، وهي آراء مماثلة لتلك التي خرجت بين عامي 2006 و2007 خلال فترة مكافحة التمرد ضد القوات الأميركية وخلال الفترة التي سبقت انسحاب 2011.

لكن، في عام 2018 أضافت استراتيجية الدفاع الوطني الأميركية عنصراً جديداً، يقول إن الولايات المتحدة ستحوّل تركيزها العسكري من مكافحة الإرهاب إلى منافسة القوى العظمى مع الصين وروسيا في المقام الأول.

غير أن بعض الخبراء العسكريين وصناع السياسة قرأوا استراتيجية الدفاع الوطني الأميركية كتوجيه ثنائي، وهو أنه على الرغم من أن مواجهة الصين وروسيا تتطلب انسحاباً كبيراً من الشرق الأوسط، فإن الولايات المتحدة تظل أيضاً في حاجة إلى الحفاظ على التوازنات الإقليمية في الشرق الأوسط بشكل يحقق المصالح الأميركية، لهزيمة الإرهابيين وحرمانهم من الملاذ الآمن ومنع القوى المعادية من الهيمنة على الشرق الأوسط، وللحفاظ على استقرار أسواق الطاقة، وإبقاء طرق التجارة آمنة، ومواجهة النفوذ الإيراني الخبيث، ولهذا ظلت هذه اللغة متواصلة في الوثائق الاستراتيجية الأميركية منذ عام 2005 على الأقل.

ولأن استراتيجية الدفاع الوطني لعام 2018 لم تحسم الجدل حول السياسة الأميركية حيال العراق حتى داخل المؤسسة الدفاعية، إلا أن التطورات على الساحتين الإقليمية والعالمية من قتل الولايات المتحدة الجنرال الإيراني قاسم سليماني في بغداد وما أعقب ذلك من هجمات على السفارة الأميركية، فضلاً عن تطور المواجهات الأميركية مع الصين وروسيا، تسبب في تعزيز وتسريع الدافع للانسحاب الأميركي من العراق، وهو ما أعلنه الرئيس السابق دونالد ترمب قبل أسابيع من تركه البيت الأبيض، ثم اتفاق الرئيس الحالي جو بايدن مع هذا التوجه.

غياب استراتيجية واضحة

اتسم الوجود العسكري الأميركي في العراق بالافتقار الملحوظ لاستراتيجية واضحة منذ غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003، باستثناء السياسة المعلنة عن تأسيس دولة ديمقراطية في العراق. وبينما لم يكن هناك تغيير فعلي في الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة في العراق منذ عام 2005، شهدت مستويات القوات الأميركية تقلبات واسعة، ففي عام 2007 ومع ذروة المقاومة السنية للوجود الأميركي، كان هناك أكثر من 150 ألف جندي أميركي في العراق.

لكن، انسحاب القوات الأميركية بعد عام 2011 وحتى 2014 اعتبره كثير من القادة العسكريين خطأ استراتيجياً كبيراً، لأنه فتح المجال أمام انتشار وتمدد تنظيم “داعش” في العراق وسوريا، وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى إعادة القوات الأميركية بعد 2014 حتى بلغت ما يقرب من 5000 جندي بحلول عام 2000.

وبينما لا يختلف صناع السياسة في واشنطن على أن المصالح الأميركية معلنة بوضوح في العراق والتأكيد على وجود مصالح عملية في الحفاظ على وجود عسكري في العراق، إلا أن الأسئلة كانت تتعلق دائماً بمستوى الحضور المطلوب، والدرجة التي تكون معها مخاطر الوجود العسكري الأميركي متوازنة مع الفوائد والمكاسب التي تسعى الولايات المتحدة إلى تحقيقها ومع توافر خيارات مختلفة للوجود العسكري الأميركي، تتدرج من عدم سحب أي من القوات إلى الانسحاب المحدود أو الانسحاب الكامل، وأخيراً فك كافة الارتباطات العسكرية والمالية والدعم العسكري والارتباطات الأخرى مع العراق.

انسحاب محدود

ويبدو أن الخبراء العسكريين وصناع السياسة في واشنطن توافقوا على الانسحاب المحدود الذي يقضي بأن تتحول مهمة القوات الأميركية في العراق إلى أدوار تدريبية واستشارية، ما يسمح بإعادة تحديد دور القوات المقاتلة المتبقية في البلاد، ما قد يؤثر في المساعدات المباشرة الأميركية للقوات العراقية، والتراجع عن المساعدات الاستخباراتية الميدانية المباشرة ضد ما تبقى من عناصر “داعش”، فضلاً عن خفض مستوى الدعم النيراني الجوي واللوجيستي والطبي، على أن تحتفظ القوات الأميركية بعدد من قواتها العسكرية في القواعد العراقية لغرض التدريب.

لكن، انسحاب القوات الأميركية من العراق سيكون له تأثير كبير على العمليات القتالية ضد تنظيم “داعش” في كل من العراق وسوريا، حيث ستتوقف القوات الأميركية عن استخدام قواعد الدعم، ومواقع إطلاق النار سطح – سطح، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وهو ما قد يؤثر في قوات سوريا الديمقراطية الشريكة للقوات الأميركية في سوريا، بعد ما تفتقد مناطق الدعم القريبة في العراق.

وعلى الرغم من ضعف “داعش” حالياً، فإن التنظيم هو منظمة إرهابية عالمية، إضافة إلى كونه حركة تمرد محلية، وعدم القدرة على قمعها وتحطيمها وردعها بشكل مباشر مع استمرار خطر حرمان العرب السنة الذي لم يتم حله حتى الآن في العراق وسوريا سيزيد من احتمالية عودة “داعش” إلى الظهور والقتال من جديد.

تعاظم النفوذ الإيراني

على الرغم من أن الطبيعة الحقيقية للاستراتيجية الإيرانية في العراق لا تزال مخفية في المجال العام، فإن القادة الإيرانيين يسعون إلى تعظيم نفوذهم على البرلمان العراقي، والحكومة لجني الفوائد الاقتصادية من العراق ولممارسة التأثير على قطاع الطاقة العراقي، والهيمنة على القطاع الأمني من خلال قوات الحشد الشعبي التي تأسست عام 2014، لمحاربة “داعش”، وأصبحت تتحدى سيادة الحكومة العراقية واستخدامها المشروع للقوة.

استفادت إيران باستمرار من نفوذها في العراق لتقويض مصالح الولايات المتحدة هناك، فهي تدعم بشكل متكرر الهجمات على العسكريين والمدنيين الأميركيين، ولهذا سيزيد الانسحاب الجزئي الأميركي من نفوذ إيران المهيمن في العراق، ويعزز قدرتها على إبراز قوتها في المنطقة، وترسيخ مكانتها في سوريا ولبنان، وزيادة تهديدها لجيران العراق وإسرائيل.

ومن الممكن أن ينعكس هذا النفوذ الإيراني بالسلب على توجهات الوحدة الوطنية العراقية، حيث رفضت مناطق الأقليات من السنة والأكراد النفوذ الإيراني على الحكم في بغداد، وإذا تراكمت مشكلات الوحدة الوطنية العراقية، وأسفرت عن عراق مجزأ، فقد يؤدي ذلك إلى تفاقم الصراع في سوريا المجاورة.

ولأن الولايات المتحدة سعت منذ عام 2003 إلى موازنة النفوذ الإيراني في العراق، فإن تخفيف أو إضعاف الوجود العسكري في العراق، لن يمكن الولايات المتحدة من القيام بهذا الدور عبر توفير مصدر بديل للأمن وتقديم الدعم الاقتصادي والمشورة السياسية، وحشد مصادر الدعم الأخرى من المنطقة.

ولا شك أن إلغاء المساعدة القتالية الأميركية المباشرة لقوى الأمن الداخلي العراقية سيترك فجوة يمكن أن تملؤها القوات الوكيلة لإيران مثل قوات الحشد الشعبي، بما يوغل يد إيران في قطاع الأمن العراقي ويقوض السيادة العراقية.

الصين وروسيا تستفيدان

سيؤدي الانسحاب الجزئي الأميركي بالضرورة إلى تقليل تأثير واشنطن في الداخل العراقي، بالتالي يقلل من احتمالات اقتناص مزايا ضد الصين وروسيا في العراق، لأن المصالح الصينية في العراق تجارية بشكل أساسي، وعلى الرغم من أن بكين لا تسعى للعب دور أمني في المنطقة أو الانحياز لطرف ما في نزاعاتها فإن الفوائد الاقتصادية التي ستجنيها الصين في العراق سوف تعزز سعيها، لتحقيق ميزة ضد الولايات المتحدة.

أما روسيا، فسوف تسعى لملء جزء على الأقل من الفراغ الأمني الذي سيخلفه رحيل جزء كبير من القوات الأميركية، ومن المتوقع أن يعرض القادة الروس زيادة مبيعات الأسلحة للعراق، وربما تقديم المشورة من المستشارين العسكريين الروس لقوى الأمن الداخلي العراقية، فضلاً عن إمكانية أن تزيد موسكو من مساعدتها القتالية المباشرة لمحاربة تنظيم “داعش”. وهو ما قد يجعل روسيا تنافس إيران في العراق، لكن ذلك سيوسع من نفوذ روسيا في جميع أنحاء المنطقة.

وإذا استُخدمت في العراق التكتيكات الروسية التي استخدمتها موسكو في الشيشان من قبل وفي سوريا حالياً فمن المؤكد أن يؤدي ذلك إلى الإضرار بالأقليات، وهذا من شأنه أن يعزز احتمال عودة المتطرفين وزعزعة استقرار العراق والشرق الأوسط.

الإضرار بقوة أميركا

وسيؤدي انسحاب عسكري أميركي ثان من العراق في أقل من عقد من الزمان إلى اهتزاز هيبة ونفوذ الولايات المتحدة في جميع أنحاء المنطقة، وبخاصة إذا منع هذا الانسحاب الولايات المتحدة من توفير الإمدادات لقواعدها الأخرى ومساعدة القوى الأخرى في المنطقة.

علاوة على ذلك، فإن الدروس التي سوف يستخلصها حلفاء الولايات المتحدة والشعب الأميركي من الانسحاب من العراق، سوف يشكل حتماً رغبات ومواقف الحلفاء في استضافة قواعد أميركية على أراضيهم، وسيؤثر في مدى التأييد العام الأميركي لهذه الخطوات مستقبلاً.

وسيكون التأثير الأساسي لانسحاب الولايات المتحدة من العراق ولو جزئياً على الوضع الإقليمي في سوريا، نظراً لمعارضة تركيا الدعم الأميركي لشركائها الأكراد في سوريا، حيث يعد استخدام القوات الأميركية القواعد العسكرية في العراق ضرورياً لدعم أي عمليات برية أميركية كبيرة في سوريا.

ولهذا، يجب أن يتوقع صانعو السياسة والرأي العام الأميركي بعض الانتكاسات الأمنية في المستقبل، وقد يتعين عليهم إضافة مزيد من القوات إلى المهمة الاستشارية من وقت إلى آخر. ومع ذلك، فإن الوجود العسكري المستمر في العراق سوف يخفف بشكل كبير من تأثير أي انتكاسات، وتقليل احتمالية حدوث أزمة ناشئة، مثل أزمة ظهور “داعش” عام 2014.

اندبندنت