الصندوق العابر للمراحل


“جاء كجنحة لا بد من ارتكابها عند البعض لكنه عند الغالبية الطريقة الوحيدة الممكنة”

أحمد الفيتوري كاتب

بديهي أننا نفعل ما نستطيع لا ما نريد، وأن هذا مدعاة للقفز عن المراحل أحياناً، والقفز ليس التخطي فحسب بل إنه لعب نرد، وليس مثل السياسة للعب نرد، لأنها ليست أن تخطط فحسب بل أن تتخيل أيضاً، ففيها ضرب من ضروب المجهول، حين يكون لا بدّ من ذلك. على ذلك تحدث الخبر عن “بط تروتسكي”، حيث قيل لو لم يذهب تروتسكي في رحلة صيد للبط، لما تمكن ستالين من الإطاحة به، فدخل ذلك في فلسفة المصادفة، والحديث عن “رفة الفراشة”، وما إلى ذلك من أن للأقدار أدواراً.

مثل هذه البديهيات، تخطر في البال هذه الأيام أكثر، حيث نشاهد الخبر في الأخبار “بساط الريح”، الوسيلة السحرية في ألف ليلة وليلة، وقد أمست في السياسة، بالمنطقة العصية على التغيير الشرق الأوسط وتوابعها، تُدعى “الصندوق”، الذي قد يكون “صندوق باندورا” في الأسطورة الإغريقية، الذي حين يفتح تهب منه رياح الشر. لكن حين يكون الملاذ الأخير، لا يكون من طريقة، غير الطريق الوعر، حتى وإن كان الزاد قليلاً، أو ما من زاد غير الصندوق، الذي كان في مرات جلاب مصائب، مثلما حين جلب مطر النازية: هتلر.
خلال فترة ما بعد الربيع العربي، بات “الصندوق” السيد واللاعب المفضل والوحيد في الحقيقة، المحلل للطلاق المستعصي من الزواج الكاثوليكي، الذي خيّم على المنطقة لدهور. لكن الصندوق أيضاً وقبل كل شيء، هو الوسيلة الوحيدة لنهاية اللعبة الديمقراطية، فالختام مسكه “الصندوق”.

طبعاً الديمقراطية وحتى أشباهها، كأي لعبة لها شروط، كثيراً ما لا تتوافر كلها، أو يتوافر أحياناً النزر الضئيل منها، ما لا يسمن ولا يشبع من جوع، فيبقي الصندوق، كما الجنوح إلى ضربات الجزاء، بعد استنفاد الوقت الإضافي، في مباراة لكرة القدم لا بد من حسمها. ولعل هذا ما شاهدناه في مباريات الدولة اليهودية، التي عكس الصندوق أزماتها الحالية والبنيوية، مرشح رئيس، متهم بالفساد وديكتاتور يتحصن بالصندوق، ما لم يوافر حسماً، فكان في الأخير: ضربات الجزاء الترجيحية.

هكذا يكون الصندوق العابر للمراحل، ضرب من الودع، هكذا كان عندما شاهدناه، في حالة الديمقراطية الهشة، في بلاد الديمقراطية الولايات المتحدة، حيث تبيّن في المركز، هشاشة الديمقراطية التي هددتها “غزوة الكابيتول”.

ما الدرس الأول مما يحدث؟ الجواب هو السؤال: هل من بديل؟ واضح أن الأزمات دليل دامغ، إذ ليس ثمة بدائل كحلّ ممكن، إلا إذا كانت في صيغة النرد. وإذا كانت الصين وبوتين القيصر الأبدي، حلاً فرض نفسه في بلديهما، ففي غيرهما لم يُجرَب غير هذا الحلّ، الذي لم ينجح في غير ازدهار الخراب، منذ رفع علم وعزف نشيد وطني. لهذا جاء الصندوق كجنحة لا بد من ارتكابها عند البعض، لكنه عند الغالبية الطريقة الوحيدة والطريق الممكن.

فكيف يمكن أن يكون الحلّ، من دون توافر الشروط؟ يقول كثيرون إن الصندوق كما هو ختام، يمكن أن يكون البدء، ويعللون هذا بأن الطرق مسدودة، لهذا لنحتكم لهذا الساحر لفتحها. هذا ما يبدو عليه الوضع، في فلسطين المحتلة وليبيا الرهينة، والبقية الباقية مثلما الجزائر والسودان.

لا أعتقد أبداً أن هناك عاقلاً يظن أن الصندوق جلّاب “المطر- الديمقراطية”، لكنه وسيلة تتم استعارتها من الديمقراطية، لحلّ ما، حين استعصى عن الحلّ، وهذه الوسيلة ممكن أن تسهّل، أمر الديمقراطية الهيكلية الهشة، فيكون الصندوق البذرة، هذه المقاربة تتحدث عن احتمال، لكنها لا تغير من واقع الحال: الصندوق الفرصة الأخيرة الممكنة، وغيرها محال.

ففي ليبيا مثلاً هناك لعبة بيزنطية: الانتخابات قبل أم الدستور؟ وفي فلسطين القدس قبل أم الانتخابات قبل؟ وفي كل بلاد من تلكم البلاد، زحار ومشكل مستعصي، مثل لبنان حكومة أم انتخابات برلمانية مبكرة؟ فيُضاف إلى السيناريو مشهد إلى جانب لعبة النرد، هو اللعبة البيزنطية، الدجاجة أم البيضة قبل؟ فيكون الصندوق البساط السحري، الذي يمكن أن يبقي في حالة طيران مستجدة: طيران محلك سرّ. فتكون الانتخابات على الطاولة، ليبقي الصندوق المحج المتوافر لكنه مغلق، حتى يأذن مالك الإذن.

غير أن التأجيل، لن يقلب مجريات الأمر ولا يغيره، فالثبات الحاصل ثبات أزمة، طبعها متغير لكن نحو الأسوأ، الذي لن يأتي بسلوى ومنّ بل بالمكرور، فما كان سيكون، أي ليس من الصندوق من سبيل، كمظلة قفز لطيار طائرته احترقت.

اندبندنت