الحكومة السورية اعترضت لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة على ما أودعته بيروت
بشير مصطفى صحافي @albachirmostafa
عندما بدأت شركة “توتال” العالمية استكشاف الطاقة في البلوك رقم (4) في المياه الإقليمية اللبنانية، عقد المواطن اللبناني آمالاً كبيرة على نهضة اقتصادية مقبلة، وما هي إلا أشهر حتى انقلبت الآية، ودخل لبنان مرحلة “جهنم الاقتصادية” في ظل انهيار كبير على الصعيدين الاقتصادي والمالي، وبلغ سعر صرف الدولار مستويات قياسية مقابل العملة الوطنية.
البلوك رقم واحد مغلق
لم تتوقف الأمور عند هذا المستوى، بل ظهرت إلى العلن “نزاعات حدودية بحرية” تشكل تهديداً جدياً للثروة المتوقعة في مجال الطاقة. ففي الجنوب، يعيش لبنان سباقاً مع الوقت بين عملية ترسيم حدود معقدة ومختلف عليها، واستعجال الجانب الإسرائيلي استخراج الغاز، الأمر الذي يهدد الثروة الباطنية في حقل كاريش. أما في الشمال فأدت عملية تلزيم شركة كابيتال الروسية لاستكشاف الغاز في البلوك رقم (1) السوري، إلى خشية من الجهة اللبنانية على البلوكين رقم (1) و (2) من الجهة اللبنانية، حيث يتداخلان بحوالي750 كيلومتراً مربعاً.
في العام 2013، وخلال جولة التراخيص الأولى، تقدم لبنان بدعوة لتلزيم البلوك رقم (1)، إلا أن أي شركة دولية لم تتقدم للاستكشاف، وفي ذاك الوقت اعترض الجانب السوري على اتخاذ لبنان خطوات أحادية من دون التشاور معه، وتقدم بشكوى لدى الأمم المتحدة. أما اليوم، فقامت الحكومة السورية بصورة أحادية، ومن دون إبلاغ لبنان، بتلزيم شركة كابيتال الروسية لاستكشاف الغاز في البلوك رقم (1) التابع لها، على الرغم من تداخله مع البلوكين اللبنانيين الشماليين.
ويتضح أن رحلة لبنان لاقتناص لقب “دولة نفطية” لن تكون سهلة من ناحية السرعة في استثمار ثرواته الدفينة، فهي تسير على درب وعرة بسبب العداء مع إسرائيل، وعدم التوصل إلى ترسيم نهائي للحدود الجنوبية، كما لا توجد إتفاقية لترسيم الحدود مع سوريا، ناهيك عن الصراع الدولي المتصاعد لناحية النفوذ السياسي والاقتصادي بين المحور الأميركي – الغربي، والمحور الشرقي الصيني – الروسي، ولا يمكن تجاهل عاملي الأمن والاستقرار الذين يؤثران في مناخ الاستثمار في هذه القطاعات العالية الكلفة، وتحديداً بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس (آب) 2020، الذي قضى على تجهيزات استكشاف الغاز والنفط، وتردد شركات التأمين في تغطية الأضرار الناجمة عن أعمال الإرهاب والعدوان، ناهيك عن تأخر لبنان في التفاوض مع صندوق النقد الدولي وبدء عمليات الإصلاح البنيوي.
النزاع الحدودي قائم
وتُعتبر أزمة الحدود أحد المخاطر التي تتهدد الكيان اللبناني في استقراره واستمراريته، كما بات معلوماً أن أزمة الحدود تتداخل فيها السياسة في ظل الخلافات القائمة بين لبنان والبلاد المحيطة به، بشأن الاقتصاد مع الصراع على المنافع والمصالح، والدور الإقليمي، إضافة إلى النسيج الاجتماعي المتداخل بين لبنان وسوريا عند الحدود الشمالية والشرقية.
ويميّز الباحث والأكاديمي عصام خليفة بين وضع الحدود الجنوبية والشمالية، فالحدود الجنوبية تخضع لوثيقة “بوليه – نيوكومب” الموقعة في 7 مارس (آذار) 1923، التي حددت حدود كل من لبنان وسوريا مع فلسطين، أما فيما يتعلق بحدود لبنان مع سوريا، فلا يوجد اتفاق ترسيم حدود كما هو الحال مع فلسطين، واتفاقية الهدنة مع إسرائيل بتاريخ 23 مارس 1949.
ويوضح خليفة أنه “كانت هناك محاولات لتحديد وتعيين الحدود مع سوريا، من دون أن نصل إلى مرحلة ترسيم الحدود النهائية، ولم يتم وضع محضر رسمي لدى الأمم المتحدة، مذكراً بأنه هذه العملية تمر بعدة مراحل، تعيين الحدود (Definition)، تحديد الحدود (Delimitation)، وأخيراً ترسيم الحدود (Demarquation)، ونحن لم نصل إلى المرحلة الأخيرة والنهائية مع سوريا”.
ويؤكد خليفة أن “النقطة التي يجب أن ينطلق منها الخط البري هو النهر الكبير، وهناك اتفاق مع سوريا على هذا المعيار المكاني، واعتماد خط منتصف النهر كخط للحدود البرية، لينطلق منه الترسيم مع سوريا. واعتمد لبنان في ترسيم الحدود البحرية “خط الوسط” بين لبنان وسوريا، آخذين في الاعتبار جزيرة أرواد (الساحل السوري)، وجزر النخل والرامكين (ميناء طرابلس)، أما الجانب السوري فلم يعتمد بحرياً على هذا المعيار التقني، بل اعتمد على خطوط الطول لضم أكبر مساحة بحرية ممكنة”.
وينطلق خليفة من أن “الجانب السوري ما زال في مرحلة الاستكشاف، ومن المبكر الحديث عن عملية الضخ، لذلك فإن هناك وقتاً كافياً للمفاوضات بين الجانبين اللبناني والسوري”، لافتاً إلى “وجوب إبلاغ الشركة الروسية والحكومة السورية عبر وزارة الخارجية بهذا الأمر”. ويظن خليفة أن “البعض يحاول التغطية على الأطماع الإسرائيلية بالثروات اللبنانية، لأن لها أولوية لناحية المخاطر، من دون أن نتجاهل أطماع الإخوان السوريين”.
ويطالب خليفة الحكومة اللبنانية باستعجال تعديل المرسوم 6433 الذي يحدد خط الحدود اللبنانية مع كل من سوريا قبرص وفلسطين في عام 2011، بناء على معيار “خط الوسط” التقني، متخوفاً من بدء شركة “إينرجين” ضخ الغاز في أواخر مايو (أيار) المقبل. ويؤكد خليفة أن المعاهدة الدولية لعام 1958 ترعى حقوق لبنان بناء للأسس والمعايير الدولية.
الحكومة السورية وتلزيم البلوك (1)
وقعت الحكومة السورية وشركة “كابيتال” الروسية عقداً تمنح بموجبه الدولة السورية للشركة الروسية حقاً حصرياً في التنقيب عن النفط وتنميته في “البلوك البحري رقم (1) في المنطقة الاقتصادية الخالصة للجمهورية العربية السورية في البحر الأبيض المتوسط، مقابل ساحل محافظة طرطوس حتى الحدود الجنوبية السورية اللبنانية بمساحة 2250 كيلومتراً مربعاً”.
ووفق جريدة “الثورة” السورية، فإن مدة العقد تقسم إلى فترتين، الفترة الأولى للاستكشاف ومدتها 48 شهراً تبدأ بتوقيع العقد (مارس2021 (، ويمكن تمديدها 36 شهراً إضافياً، أما الفترة الثانية فهي مرحلة التنمية ومدتها 25 عاماً قابلة للتمديد خمس سنوات إضافية.
وبحسب الصحيفة السورية، فإن العقد هو الثاني بين الدولة السورية وشركة روسية، فقد سبق أن وقعت عقداً مع شركة “إيست ميد عمريت” لاستكشاف البلوك رقم (2) الممتد من شمال طرطوس إلى جنوب بانياس بمساحة 2190 كيلومتراً مربعاً، حيث تم الانتهاء من الدراسات والتقييم، وتم تحديد مواقع أولية للحفر في انتظار إجراء الدراسات السايزمية ثلاثية الأبعاد.
وفي سياق متصل، سبق للحكومة السورية أن اعترضت لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة على ما أودعه لبنان لناحية تحديد الحدود البحرية بالمرسوم الرئاسي رقم 6433 تاريخ 1 أكتوبر (تشرين الأول) 2011. وبيّنت الحكومة السورية اعتراضاتها في الرسالة، إذ اعتبرت أن “إيداع لبنان لهذا المرسوم ليس له أي أثر قانوني ملزم تجاه الدول الأخرى”، كما أنه برأي الجانب السوري “لا يجوز أن يتم الترسيم بين الدول المتجاورة أو المتقابلة بالإرادة المنفردة لإحدى الدول”، ولذلك اعتبرت الحكومة السورية أن المرسوم اللبناني عبارة عن تشريع داخلي صدر وفق القوانين الوطنية اللبنانية، وليس له أي صفة إلزامية خارج الحدود الوطنية، وبالتالي فهو غير ملزم لها وفق رسالة الوفد السوري الدائم لدى الأمم المتحدة والذي يترأسه بشار الجعفري.
اللاعب الروسي حاضر
أفسحت الحرب السورية الفرصة أمام روسيا للعودة إلى المياه الدافئة، وهذا أمر غاية الأهمية ضمن استراتيجية استعادة الدور السياسي والاقتصادي في مواجهة الخصوم الغربيين.
ويؤكد المتخصص في الشأن الاقتصادي كمال حمدان أن الروس يحاولون بناء توازن دولي جديد، وإحداث خروقات في الشرق الأوسط، وإقامة شبكة مصالح جيوسياسية واقتصادية، متحدثاً عن دور روسي مؤثر في قطاع النفط، وإمداد أوروبا بالغاز بطريقة “شبه احتكارية” منذ عشرات السنين.
ويلفت حمدان إلى محاولات إيجاد بدائل للغاز الروسي وشق طرق جديدة لتزويد أوروبا بالغاز، انطلاقاً من الاكتشافات الجديدة في شرق المتوسط، ومحاولة خلق تكتلات لاستثمار واستخراج ونقل وتسييل الغاز ومد شبكات الأنابيب من قبل لاعبين جدد. وينوه حمدان إلى تأثير الاكتشافات الجديدة مقابل لبنان وسوريا وفلسطين وقبرص ومصر، معطوفة على خلق شبكات إمداد وتوريد جديدة، واستثمارات بعشرات المليارات في صب الأنابيب. ويعطي الوجود الروسي في المياه الدافئة فرصاً أكبر للاستثمار ومرونة أكبر في تحصين الموقع الاستراتيجي، وتعطيل محاولات تطويقها بصور مختلفة.
لذلك فإن روسيا مهتمة بلعب دور جديد، إذ تستثمر من أجل الحفاظ على الخطوط التقليدية التاريخية الموصلة إلى أوروبا، وكذلك لعب دور أساس في الخطوط الجديدة المزمع إقامتها انطلاقاً من الشرق الأوسط. ويبدأ المسار طويل بالاستكشاف، الإنتاج بكميات تجارية والتخزين والتصنيع وإرسال المواد الخام ونقلها، وصولاً إلى تسييلها وتوريدها، وهذه الأمور لا بد من أن تترافق مع وجود مرافق مساعدة وطاقة.
منشأت النفط في طرابلس روسية
وعلى الحدود اللبنانية بدأت الشركات الروسية عملية تأهيل منشآت “شركة نفط العراق” الواقعة في منطقة البداوي شمال طرابلس اللبنانية، هذه المنشآت التي لعبت دوراً تاريخياً في استجرار وتكرير النفط، قبل توقفها في نهاية الحرب اللبنانية بسبب أعمال التخريب.
ويعود تاريخ المنشآت النفطية في طرابلس إلى أوائل ثلاثينيات القرن الماضي، عندما حصلت شركة نفط العراق (IPC) على امتياز نقل النفط الخام المنتج في كركوك إلى طرابلس، وبدأت نقل النفط بواسطة شبكة خطوط أنابيب امتدت من العراق إلى لبنان عبر حمص، ومع وصول النفط إلى المصب في المصفاة اللبنانية، كان يتم تكريره وتصديره إلى الخارج.
وفي عام 1940 تم إنشاء المصفاة لتصفية النفط الخام المستورد من العراق بسعة 21 ألف برميل في اليوم من النوع الممتاز. وعلى خلاف خط “التابلاين الذي يوصل النفط السعودي إلى الزهراني والذي توقف عقب احتلال الجولان، فإن خط الخام العراقي الواصل إلى طرابلس استمر بالعمل ولم يتوقف إلا مع “الدخول السوري إلى لبنان عام 1978” في ظل الخلاف بين البعثين العراقي والسوري، حيث استبدل خط الجر بالبواخر.
وفي أعقاب توقف المصافي المحلية عن تكرير النفط في لبنان، انتقلت السيطرة على القطاع إلى الشركات الخاصة المستوردة. واليوم تحولت المنشآت النفطية إلى مجرد مراكز تخزين للمشتقات النفطية، وتحديداً الفيول أويل والغاز أويل.
في المحصلة، يبدو أن مسار استكشاف الثروات الباطنية اللبنانية واستثمارها يواجه مطبات جديدة، ولا يتوقف الأمر عند تصريحات بعض الساسة في لبنان و”التشكيك” في نتائج عمل شركة “توتال”. الأمر الذي يرفضه الخبراء، لأن “الشركات الكبرى لا تُغامر برصيدها وسمعتها العالمية، وإنما تعطي الأولوية لحساب المخاطر الناتجة من الوضع الأمني”.