لن تتمكن إيران من قصف حيفا


الاتفاق بين بكين وطهران يدفع دول المنطقة إلى التدقيق في حساباتها

طوني فرنسيس إعلامي وكاتب ومحلل سياسي لبناني

لن تتمكّن إيران بعد توقيعها وثيقة التعاون الاستراتيجي مع الصين الشهر الماضي من التهديد بقصف حيفا “وما بعد حيفا”، وسينجو حي وادي النسناس العربي العريق في المدينة من دمار ألحقته به الصواريخ الإيرانية العشوائية في مناسبات سابقة .

فقصف حيفا هذه المرة سيهدد الوجود الصيني نفسه في المدينة ومرفئها، حيث يلتقي الأسطول الحربي الأميركي شركاءه الإسرائيليين تحت أنظار العمال والخبراء الصينيين الذين يستثمرون في المرفأ وأنحاء أخرى من إسرائيل، في إطار اتفاقات إسرائيلية – صينية سبقت بأشواط وسنوات الاتفاق المستجد بين طهران وبكين .

إيراد هذه القصة يأتي في معرض الإشارة إلى حجم التداعيات المحتملة للاتفاق الصيني الإيراني، على إيران وعلى دول المنطقة، بما فيها إسرائيل التي تجعل من نظام طهران هدفاً رئيساً لاستراتيجيتها الإقليمية. فمنذ الكشف عن الاتفاق العام الماضي عبر صحيفة “نيويورك تايمز”، بدا أنه يتخطى أي اتفاق آخر بين دولتين، ويذهب إلى “اندماج” فعلي بين الصين الصاعدة وإيران المأزومة، بحيث لن يبقى مجال حيوي إيراني خارج الإصبع الصيني .

يشمل الاتفاق “المعاهدة” منذ أن طرحه الرئيس شي جينبينغ عام 2016، غداة إقرار الاتفاق النووي بين الدول الخمس وطهران، استثمار 400 مليار دولار في البنية التحتية الإيرانية في مجالات المصارف والاتصالات والموانئ والمطارات والسكك الحديدية والطرق والصحة والإسكان والمدن الذكية وتكنولوجيا المعلومات. وينص الاتفاق على تعميق التعاون العسكري بما في ذلك التدريبات المشتركة والبحوث وتطوير الأسلحة وتبادل المعلومات الاستخبارية.

وتورد وثيقة “برنامج التعاون الشامل” التي لم تنشر رسمياً بنوداً أخرى تشير إلى تصدير الغاز الإيراني إلى الصين وباكستان، وإلى برنامج مشترك لتطوير ونقل موارد الطاقة في العراق ومشاركة الصين في إنتاج ونقل الكهرباء بين إيران والدول المجاورة، ما يُضفي أبعاداً إقليمية حقيقية وعملية على الاتفاق.

وحققت الصين في اتفاقها الإيراني ما يشبه اجتياحاً سياسياً ستتّضح نتائجه في أوقات لاحقة مع دخوله حيز التنفيذ. أرفقت ذلك الاتفاق بمبادرتين سياسيتين نقلهما وزير الخارجية وانغ يي، الأولى تتعلق بالأمن الإقليمي والثانية بالنزاع الإسرائيلي الفلسطيني. وجال الوزير الصيني على تركيا والسعودية والإمارات والبحرين وعُمان طارحاً أفكاره، في وقت كانت الولايات المتحدة الأميركية تركز على استعادة التفاوض مع إيران بشأن ملفها النووي وتعلن عن خطوات لتخفيف حضورها العسكري في المنطقة .

بدت اقتراحات الصين المتزامنة مع توقيع اتفاق طهران محاولة تطمين لدول المنطقة في أن الاختراق الإيراني لن يكون على حسابها، بل هو جزء من سياسة صينية شاملة تنظر في مساعدة هذا الجزء من العالم على تخطي مشكلاته السياسية والأمنية والاقتصادية. وإذا كانت دول الإقليم حاولت سبر أغوار الاتفاق ومعنى الخطوة الصينية، فإن واشنطن لم تُظهر أي استياء، بل استمرت في التركيز على الملف النووي ودور الصين بخصوصه.

وفي تصريحات للخارجية الأميركية، جاء أن هذا الاتفاق لن يؤثر في موقف واشنطن إزاء سياسة طهران النووية “والمنطقة بأكملها”. وذكرت الخارجية أن الصين تعاونت “في جهود الحد من برنامج إيران النووي. وليست مهتمة برؤية تطويرها سلاحاً نووياً وما سيجلبه ذلك من تبعات مزعزعة شديدة إلى المنطقة التي تعتمد عليها بكين”.

وترتبط الصين قبل اتفاقها مع إيران بشراكات استراتيجية مع السعودية والإمارات. في 2016، أقامت الرياض وبكين لجنة مشتركة رفيعة المستوى برئاسة كل من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ونائب رئيس الوزراء الصيني تشانغ جيلي. وأنشأت الإمارات لجنة مماثلة برئاسة خلدون خليفة المبارك ويانغ جيتشي، وزير الخارجية الصيني السابق. وخلال زيارته إلى الصين عام 2019، قال ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد آل نهيان، “يعمل الجانبان على إرساء ركائز لخريطة طريق للمئة عام المقبلة”.

السؤال الآن هو حول فاعلية هذه الشراكات العربية الصينية بعد الخطوة الصينية الإيرانية، وللجواب عن السؤال يجب الانطلاق من مجموعة حقائق؛ الأولى، حرص الصين على إنجاح مشروعها “الحزام والطريق” المفتوح على تعاون مع مختلف دول المنطقة. والثانية، حرصها أيضاً على جمع مزيد من الأوراق في مواجهتها للضغوط الأميركية. وهي تلتقي في ذلك مع روسيا وإيران وغيرهما من الأنظمة التي تتعرّض لعقوبات أميركية وأوروبية. والثالثة، أن بكين وموسكو ومعهما واشنطن تلتقي على إقامة أفضل العلاقات مع إسرائيل، وهذه الدول الثلاث تحرص على تعزيز علاقاتها مع الخليج العربي الذي يتمتع في الأساس بعلاقات وطيدة مع الولايات المتحدة.

وتتمثل الحقيقة الرابعة في أن اتفاقاً شاملاً بهذا الحجم بين إيران والصين لا بد من أن ينعكس على البنية الذهنية والسياسية لإيران نفسها، فإذا كانت صين الماضي انتهت مع ثورة ماو الثقافية لتولد ثورة دينا شياو بينغ الاقتصادية في بلد واحد بنظامين رأسمالي واشتراكي، فإن شرط قدرة إيران على مواكبة ما يقترحه برنامج التعاون الصيني هو الانفكاك من أسر الخمينية، أي أن عليها مغادرة ماو تسي تونغها !

لا شك أن المنطقة بمجملها تستعد للدخول في حقبة جديدة وسط الشهية الصينية المفتوحة وسياسة “عدم اليقين” الأميركية والحضور الروسي الذي ينتظر ترجمة سياسية. وفي هذا المناخ، يجدر بكل بلد أن يدرس خطواته بدقة، وهو ما نشهد تجلياته اليوم في أكثر من عاصمة .

ولعل النقاش الدائر في إسرائيل، الدولة المتوجسة من إيران واحتمالات الاتفاق الأميركي معها، يقدّم نموذجاً عن الحاجة إلى توفير استقرار ورؤى استراتيجيين في النظرة إلى التطورات المحتملة.

وما يجري في تل أبيب من بحث حول ضرورة توفير استقرار على مستوى السلطة وسط تهديد بانتخابات نيابية خامسة، يُفترض أن يجري مثله في البلدان الأخرى، ففي زمن التحولات الكبرى تبقى ضمانة البلدان في تعزيز جبهتها الداخلية ووعيها لدورها في محيط متلاطم .