الركود بحسب صندوق النقد الدولي وصل إلى 25 في المئة عام 2020
رفيق خوري كاتب مقالات رأي
لبنان يقف على الحد الفاصل بين مرحلتين: مرحلة التمويل الخارجي للفساد والسرقة والتبعية، ومرحلة التوقف عن التمويل بسبب التمسك الداخلي بحماية الفساد والسرقة، المرحلة الأولى رافقت حرب لبنان على مدى 15 عاماً، حيث كانت الأموال العربية والإقليمية والدولية تهطل كالمطر على كل المنظمات الفلسطينية وميليشيات الحركة الوطنية المتحالفة معها وميليشيات الجبهة اللبنانية على الجانب الآخر من الحرب.
وهي استمرت بعد اتفاق الطائف على شكل مساعدات للسلطة الجديدة، وبالطبع لأمراء الحرب الذين أمسكوا بالسلطة، وبحسب تقرير من فريق تابع لمؤسسة “كونراد أديناور” الألمانية فإن لبنان تلقى بين عامي 1993 و2012 نحو 170 مليار دولار كمساعدات وقروض، وهذا مبلغ أكبر من المبلغ الذي قدمته أميركا بموجب “مشروع مارشال” الذي أحيا أوروبا المدمرة في الحرب العالمية الثانية، وكان في حدود 15 مليار دولار أي ما يوازي اليوم 142 مليار دولار، لكن هذه المساعدات لم تكن مشروطة بالإصلاح ولا بوقف السرقة والحد من الفساد، بحيث أسهمت في إطالة عمر النظام الريعي الزبائني والحفاظ على شكل المؤسسات وسلطة المافيا السياسية والمالية والميليشياوية، بالتالي عطلت الإصلاحات الضرورية، أو أقله أجّلتها.
والمرحلة الثانية أخذت مداها في “مؤتمر سيدر” الذي قدمت فيه الحكومة اللبنانية مشروع إصلاحات والتزمت تنفيذه بعدما ربط المانحون المساعدات بإجراء الإصلاحات، ثم تكاملت بعد الانفجار الرهيب في مرفأ بيروت الذي دمّر الميناء وأحياء من العاصمة، وقيام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بزيارتين لبيروت، ماكرون رسم خريطة طريق للتعافي وجمع أمراء الحرب والطوائف في قصر الصنوبر، والتزموا تنفيذها وإجراء الإصلاحات البنيوية الضرورية للحصول على المساعدات والقروض، لكن هؤلاء تملصوا من الالتزامات بعد عودة ماكرون إلى باريس، وكانوا قبل ذلك قد سدوا نافذة الفرصة المفتوحة للحصول على مساعدات من صندوق النقد الدولي، هي عملياً مفتاح كل المساعدات الأخرى، لم يصغوا إلى صراخ الناس في الداخل، ولا إلى النداءات الخارجية.
“مجموعة الأزمات الدولية” قالت إن ما حدث من تظاهرات وقمع هو “مؤشر جديد إلى بوادر انهيار الدولة، وعلى شركاء لبنان الدوليين الضغط على النخبة الحاكمة لحل الأزمات”، والبيان المشترك الأميركي- الفرنسي الذي وقّعه وزيرا الخارجية أنتوني بلينكن وجان إيف لودريان دعا إلى “التحقيق الجدي في انفجار المرفأ، وتأكيد الحاجة الملحة والحيوية لأن ينفذ المسؤولون التزامهم تشكيل حكومة فاعلة ذات صدقية تعمل على إجراء الإصلاحات الضرورية استجابة لتطلعات الشعب اللبناني، والإصلاحات ضرورية بشكل مطلق لتمكين الولايات المتحدة وفرنسا وشركائهما الإقليميين والدوليين من توفير دعم إضافي وبنيوي وبعيد المدى للبنان”.
وبقي ذلك وسواه مثل صوت صارخ في برية المسؤولين اللامسؤولين، فالحكومة عالقة، والإصلاحات معطلة، والمساعدات مجمدة، الركود بحسب صندوق النقد الدولي وصل إلى 25 في المئة في عام 2020، وبين عامي 2004 و2019، بحسب إدارة الإحصاء المركزي، فإن العمالة في الزراعة انحدرت من 7.5 في المئة الى 3.6 في المئة، والعمالة في الصناعة من 23.7 في المئة إلى 20.5 في المئة، والانحدار كان أكبر عام 2020.
وليس في المسألة ألغاز وأسرار، ما يمنع تأليف الحكومة هو الخوف من إجراء الإصلاحات، وما يمنع الإصلاحات هو الخوف على المصالح والمكاسب من إنهاء الفساد والسطو على المال العام والخاص، وما جعل مسار الانهيار طويلاً وصولاً إلى “التحول الكيفي السريع” بعد “التراكم الكمي البطيء” بحسب النظرية الماركسية، هو التوقف عن تقديم المساعدات من دون شروط، ومن هنا قول الرئيس ماكرون، “لبنان في أزمة بسبب حلف شيطاني بين الفساد والترهيب. عاطفتي تتجه نحو شعب لبنان، أما قادته فلا يستحقون بلدهم”.
حتى في موقع إنساني مثل توزيع اللقاح المضاد لكورونا، فإن الفساد والمحسوبيات والتملص من المراقبة دخلت على الخط، على الرغم من التسليم بمراقبة البنك الدولي الذي قدم التمويل من أجل حسن التوزيع، فما رافق شكوى اللبنانيين من المحسوبية هو شكوى المسؤولين من الرقابة الدولية التي تحول دون العمل كما يريدون، وكل هذا جانب من المشكلة، أما الجانب الآخر، فإنه سياسة دفع لبنان نحو محور “الممانعة والمقاومة” الذي تقوده إيران.
والدنيا تغيرت، شعار: ساعدونا ودعونا نسرق، سقط، ولعبة “الشيزوفرينيا السياسية” انتهت، ومن الوهم أن نطلب من العرب والغرب تحرير المساعدات المجمدة، ونحن نحمل على أكتافنا جمهورية الملالي في إيران ومشروعها المعادي لأشقائنا العرب وأصدقائنا الدوليين.