الهوس بالزعامة معد كما كورونا
أحمد الفيتوري كاتب
حدثني جرسون تركي شاب منذ سنوات في مطعم متواضع في إسطنبول، أنه قرأ ذات مرة مقالة، في جريدة محلية، عن أن العرب ظاهرة صوتية! وأن هذه المقالة وضحت له فكرة أن العاجز ظاهرة صوتية، هكذا فسر لي، كيف فهم ظاهرة أردوغان.
ومن ثم قال: الزمن لا ينضج أردوغان بل يكشف عن عطبه، فتركيا التي هي قاعدة أميركية، محاذية للقاعدة الأخرى إسرائيل، أردوغان فيها موظف كبير يؤدي مهمة محددة. كنت أنصت له مدهوشاً، فعند كثير من العرب أردوغان، زعيم تحرري من طراز زعماء الستينيات، فقائد مرحلة تاريخية، وأن الأعدقاء أردوغان وبوتين في هذا النموذج/ الخلف للسلف!
انشغل عني في عمله- الجرسون طالب الدراسات العليا في العلوم السياسية- ومنذ تلك المصادفة البرهة لم يغب عن ذهني. وكان أردوغان، بخاصة مع الربيع العربي، قد تبوأ مكانة العاجل في المحطات الإخبارية، وأخذ يظهر في صورة “سلطان عثماني”، في كاريكاتير الصحف الدولية والعربية، مع كل عاجل وكل خبر، عن تدخله في شؤون العرب وغير العرب، حيث كان كالمحارب في الحروب الصليبية.
انشغلت بهذه الظاهرة الأردوغانية، عند زيارته ليبيا، أيام ثورة فبراير (شباط) 2011 الأولى، خطب في مدينتي بنغازي، فيما تبقى من ضريح شيخ الشهداء عمر المختار، الذي أزاله القذافي منذ سنوات، ونفى جثمانه خارج المدينة، لأن الضريح، كان ميدان كل تظاهرة تخرج ضده.
وكان أردوغان في خطابه آنذاك، قد لفت نظري لاستعادته ماضياً ولى، حيث كان أتاتورك قد حارب، كضابط في الجيش التركي مع المجاهدين الليبيين، ضد الغزو الإيطالي، شرق ليبيا تحديداً في مدينة درنة. لقد فطنت إلى مفارقة: أن أردوغان يستمد روح الزعامة من أتاتورك، وأنه يرى فيه الخصم والنموذج في الوقت ذاته.
هكذا تبين لي أن الهوس بالزعامة معد كما كورونا، وأن روحها تعبر الزمان والمكان، وأن العجز عن تحقيق المراد، مدعاة لشحن الإرداة الواهنة بالكلام، وأيضاً الدافع لارتداء لباس المحارب، وبالتالي الانجذاب إلى مشكل، فساحة الحرب مغوية ولكن عن بعد.
وفي خلال عقدين تقريباً، بات أردوغان زعيم الوغى، ينظر: أن حل المسائل المتأزمة يكون عبر التهديد بالحرب، وخلال سنوات بات داعية حرب، بكل الوسائل الممكنة، واتجاه كل المسائل حتى أبسطها. وجعله ذلك يبرر كل وسيلة، حتى أن يقود انقلاباً ضد نفسه، ليفتك بخصومه، وأن يتخذ من الخصم حليفاً ليحققا معاً المشترك بينهما.
هذه الروح الحربية، جعلت تركيا قاعدة لتصاريح حرب، واستعراض قوة من شرق المتوسط إلى غربه. فأردوغان أب تركيا، ما تغزو القارات وتستعيد مجد الأسلاف. لكن بغتة غير من مساره 180 درجة، ليدخل السلام كمبشر من دار السلام: تركيا، المحاصرة في حالة الحرب، المثخنة بالجراح، الطافح جسد عملتها بالوهن، التي بقيادة متضخمة الذات أضحت شمشون المنطقة.
لقد تحدث مراقبون كثر، عن الدور الأميركي في ذلك، وخصوا إدارة بايدن. لكن من جهتي أجد في أردوغان، كزعيم نموذج، لزعامة عرفناها جيداً في المنطقة، هي كما جانوس الإله الروماني، الحامل لوجهين هما وجهه الواحد. مثل هذه الزعامة تحمل النقيضين، فهي المحاربة كظاهرة صوتية، صاحبة أهداف بعيدة، لكن في الوقت ذاته تنظر عند قدميها، تمارس ما لا تعتقد، وتنادي بما لا تريد، فتخفي ما تضمر ما هو شأن ضئيل، وهكذا زعامة تحرث البحر بطبيعتها.
أردوغان إسطنبولي حتى النخاع، بمعنى أنه براغماتي ذاتي، يكتفي بأنه في إسطنبول قادر على قارتين. لذا حين هبت عاصفة التهدئة والسلام في المنطقة، دخل السلام وأعلن نفسه نبي السلام. وهكذا هو الآن، وهنا المحارب من أجل السلم، والوعد السلام.
وسيكون كما كان ظاهرة صوتية سلمية، وهذا على الأقل سيعزز من مقاربة، التفاوض والتهدئة في المنطقة، وحتى مع الغرب. لكن ذلك لن يحدث تغيراً جذرياً، فطبيعة هكذا زعامة بوجهين كما أشرنا.
أردوغان زعيم من عصر ولى، ما أحدثه في تركيا من إيجابيات، قد جبه ما أحدثه في المنطقة من سلبيات، ما “داعش” أيقونته. وكي تخرج تركيا، من الحصار الذي وضعها فيه، تحتاج إلى وقت وقيادة أخرى. لكن على مستوى المنطقة، أعتقد أن ظاهرة أردوغان، لا تتعايش مع السلام، الذي يبدو أنه مآل جديد، في منطقة عانت من ويلات الحرب، منذ الحرب الكبرى الثانية وحتى الساعة.
المقالة تعبر عن راي كاتبها