بحثا عن تأنيث الفقه


لن يذهب أحد نيابة عن المرأة لخوض هذه المعركة الحاسمة فهي من سيحرر الإنسان من ثقل الدين السياسي

أمين الزاوي كاتب ومفكر

يوم يتأنث درس الفقه الإسلامي ستسكت كثير من الأصوات المعادية للمرأة، تلك الأصوات التي تستمد هجومها من تأويلات دينية فاسدة ومتجاوزة، وسيدخل العالم العربي والمغاربي والإسلامي، بشكل طبيعي وبهدوء، جغرافية الحداثة والعيش المشترك في سلام مع المحيط الإنساني العام.

اليوم الذي ستقوم فيه نساء عالمات مجتهدات متنورات بقراءة جديدة ومعاصرة للتراث الفقهي الذي أسسه “الرجل” وبعقلية “ذكورية” وبطلب من سلطة سياسية بطريركية، يومها سيتحرر المخيال العربي والإسلامي من أمراض الأيديولوجيا الذكورية التي تضغط بثقلها على كل مناحي الحياة منذ قرون.

لا شك في أن هناك مهناً وممارسات في مجتمعاتنا العربية والمغاربية قد تأنثت إن بشكل كبير أو متوسط أو ضعيف، لكن عالمنا لا يزال يرزح تحت ثقل الأيديولوجيا الذكورية التي لا تريد أن تتنازل عن فتوحاتها الوهمية والواهمة.

في البدء، بصعوبة كبيرة، تأنث الغناء والموسيقى والمسرح، وبعد نضال شرس قادته ولا تزال الفنانة العربية والمغاربية، من أم كلثوم حتى آخر فنانة تصعد الركح لتغني أو ترقص أو تعزف أو تمثّل، وحتى إن كانت المرأة قد حققت مقعدها في هذا المجال الفني، فلا تزال النظرة ذكورية قائمة ولا تزال عقلية التبضيع متفشية.

وإذا ما كان الأدب والكتابة الإبداعية بشكل عام قد اقتحمتهما أقلام نسوية وازنة وبديعة وعالية الجودة، وهي الآن تقف في الصف الأول في الشعر والرواية، فإن عقلية الذكورة لا تزال حاضرة وفاعلة في هذا المجال الفني الحيوي.

وها هو التعليم بكل أطواره أيضاً قد تأنث بشكل كلّي أو يكاد، فقد أضحى عدد المعلمات والمدرسات وأساتذة الجامعات والمعاهد العليا من جنس الإناث أكبر من عدد الذكور في كثير من المؤسسات التربوية. وتلك، من دون شك، حالة صحية وإيجابية في مجتمع يبحث عن طريقه للخروج من مربّع التخلف. مع ذلك، لا تزال الأيديولوجيا الذكورية مهيمنة، إذ يعاد إنتاجها من خلال المناهج الدراسية القائمة وهي في غالبيتها متمترسة بالظلامية والعداوة للمرأة، فمن المفارقات العجيبة أن تجد الأستاذة أو المعلمة نفسها تدرّس برنامجاً يقف موقف العداء لها!

وفي ميدان الصحة، فقد تأنثت العلوم الطبية أيضاً أو كادت وأصبحت لنا جيوش كثيرة من الطبيبات المتخصصات وكثيرات في الطب العام والباحثات والطبيبات المساعدات والممرضات، لكن مع ذلك فالأيديولوجيا الجنسوية الذكورية لا تزال مهيمنة على هذا القطاع، فأن تجد طبيبة، طب عام، في الجزائر العاصمة عام 2021، وعلى الرغم من قَسَم أبقراط الذي أدّته، ترفض أن تعالج الرجال، وهذه ليست حالة معزولة، إنها صورة عن هذه الأيديولوجيا التي تعشش في مخيال الطبيبات، التي تكرسها قوة سياسية في البلد تخاف من التغيير ومن المنافسة العادلة والنظيفة.

لقد دخلت المرأة أيضاً ميدان الرياضة بكل فروعها، ولا يزال رافعو راية الأيديولوجيا الذكورية يناقشون “الحلال والحرام” في لباس المرأة الرياضية، بدلاً من التركيز على التكوين والتدريب وما تقدّمه من إبداع ومن نتائج مشرفة جهوية وعالمية.

ثم تأنثت السياسة قليلاً وأصبحت لنا ممثلات في مجالس نواب الشعب ووزيرات وسفيرات، ولكن في كثير من المرات يكون هذا الوجود النسوي “للتزويق” أو هو عبارة عن رسالة موجهة للاستهلاك الخارجي الدولي، كي يُقال عن بعض الأنظمة السياسية القمعية إنها منخرطة في إيقاع العالم المعاصر، لكن علينا أن نعترف بأن السياسية في العالم العربي والمغاربي، بشكل عام، هي مجال ذكوري بامتياز.  

وقد دخلت بعض النساء ميدان المال والأعمال، وأصبحت لنا بعض سيدات الأعمال، وهذه ظاهرة إيجابية ولكن الطريق لا يزال طويلاً والصعاب كثيرة ومتنوعة.

وسيظل هذا التأنيث الذي طاول كثيراً من القطاعات في المجتمعات العربية والمغاربية معوقاً معرّضاً لتهديد الأيديولوجيا الذكورية ما دامت المرأة لم تدخل وبشكل قوي وذكي وتنويري واجتهادي باب البحوث الفقهية. وبما أن الفقه هو صناعة الرجال ولا يزال بين أيديهم منذ قرون، فإن صورة المرأة لن تتخلّص من فكر “التشييء” و”الاستهلاك”، وسيظل هذا التأنيث هشّاً ومعرّضاً للتراجع والاهتزاز إذا لم تواجه المرأة هذا الوضع بجرأة ودراية.

ولأن الأيديولوجيا الدينية في شكلها السياسي متسربة في كل مفاصل الحياة الاجتماعية اليومية، ولأن الإسلام السياسي متموقع في كل القوى الاجتماعية والتربوية والسياسية، مستنداً إلى تاريخ طويل لفقه الذكورة، فإن خلاص المرأة هو اجتياحها هذا الميدان وتحرير الفقه من الذكورة التي أنتجته وهي تعيد إنتاجه باستمرار، وكي لا تقع المرأة في الفخ الأكبر، يجب أن يكون الزحف على الفقه من باب الاجتهاد والنقد الجريء. فالخوف الأكبر هو إنتاج “فقيهات” يكررن “فقه” الذكورة، وتلك هي الطامة الكبرى! 

اليوم الذي تصبح فيه المرأة باحثة “فقيهة” بعقل متنور قادر على نقد فقه الذكورة في الأصول والفروع، وإنتاج قراءة جديدة تتماشى مع العصر، لمصلحة الإنسان، رجلاً كان أو امرأة، يومها لن يستطيع أي أحد من دعاة فقه الذكورة أن يتطاول على المرأة باسم الدين.

اليوم الذي تصبح فيه المرأة مفتية، في البلدان العربية والمغاربية، قادرة، ارتكازاً على قراءات معاصرة للمتون والفروع، أن تصدر فتاوى بكل حرية واعتماداً على معرفة لا تشوبها شائبة، فتاوى متحررة من ظل الفقيه الذكوري، يومها لن يتجرأ أي مفتٍ على تحقير المرأة وإنزالها منزلة القاصر بالمؤبد.

اليوم الذي تصبح فيه المرأة العالمة قادرة على صناعة تأويل جديد مبني عل مقاربات جديدة لفقه كتبه عقل ذكوري استجابة لطلب خليفة أو سلطان أو والٍ عبر العصور، يومها ستحرر المرأة نفسها من أيديولوجية “الخنوع” و”العبودية” المقنّعة وستحرر الرجل العربي والمغاربي المسلم من مخيال معطوب ومهووس ظل سجينه مدة قرون.

اليوم الذي ستُحَرِّر فيه المرأة المتنورة الفقه من الأيديولوجيا الذكورية، يتحرر المجتمع من الدين السياسي، وتختفي الأحزاب الدينية أو يضعف رأسمالها من الغوغاء، يومها سيعود الدين إلى مكانته الطبيعية والإنسانية كتجربة فردية خاصة ما بين الإنسان وخالقه.

اليوم الذي ستتأنث الدراسات الفقهية، وتتعدد أصوات الباحثات المتنورات من أمثال نوال السعداوي وفاطمة المرنيسي وهالة الوردي ورجاء بن سلامة ورزيقة عدناني وغيرهن، وتصبح بالآلاف وتكثر كتبهن ويتعدد قراؤهن وقارئاتهن، يومها ستتحرر النساء على الجبهات الأخرى في الفن والأدب والتعليم والطب والرياضة والسياسة والمال والأعمال.

لمحاربة فقه الذكورة، لن يذهب أحد نيابة عن المرأة لخوض هذه المعركة الأخيرة والحاسمة، هي من سيحرر الإنسان الرجل والمرأة من ثقل الدين السياسي.