الفندق العجيب الذي لم يبنه أنطونيو غاودي في نيويورك

كيف كان يمكن للمعماري الكبير إنقاذ برجي مركز التجارة العالمي؟

إبراهيم العريس باحث وكاتب

هناك نظرية في “علم عمران المدن” تقول لنا، إن نقطة الضعف القصوى في أي مدينة من المدن تكمن في قمة أعلى مبانيها، ومن هنا حين تشن قوة ما عدواناً على مدينة يستهدف إصابتها ومبانيها وسكانها بأكبر قدر من الدمار والأذى، تتوجه بعدوانها عادة إلى النقطة الأعلى. ومن هنا يبرز سؤال لا بد من طرحه: هل كان ثمة إمكانية ما لتجنيب برجي مبنى التجارة العالمي النيويوركيين تلك المأساة التي أحلها الإرهاب الانتحاري بهما، من كان في مقدوره أن يحول دون وقوع تلك الكارثة المدمرة؟ الجواب هو: أنطونيو غاودي المعماري العظيم الذي رحل عن عالمنا على أي حال في عام 1926 أي قبل كارثة نيويورك بثلاثة أرباع القرن. ولكن لماذا غاودي، وكيف كان في إمكانه فعل ذلك؟

لو أن غاودي…

نعود هنا إلى الأعوام 1908 – 1911 ولكن بالتواكب مع عبارة “لو أن غاودي…”. وحكايتنا هنا تبدأ ذات يوم من ربيع 1908 حين كان سائحان أميركيان ثريان حققا ثروات ضخمة في عمليات المضاربة العقارية في نيويورك يزوران مدينة برشلونة مدهوشين بعمارات كثيرة فيها حين سألا عن المعماري الذي أنجز تلك الإبداعات قيل لهما، إنه أنطونيو غاودي الذي كان يبلغ حينها ما يتجاوز الخمسين من عمره، وكان يشتغل على ذلك الصرح الذي نعرف أنه لم يكتمل أبداً ويضم كاتدرائية “العائلة المقدسة” (ساغرادا فاميليا)، وبكثير من البطء بسبب الافتقار إلى الأموال اللازمة. خلال أيام عديدة حينها دأب الثريان الأميركيان اللذان سيظل اسماهما مجهولين وإن كان يعتقد أن أحدهما يدعى ويليام جيبس ماكادو ويدير شركة للسكك الحديدية في الشرق الأميركي، دأبا على زيارة المكان يومياً وتأمل هيكل المبنى والتحري حول الأشكال التي سوف يتخذها في النهاية. ومن الواضح أن فكرة اختمرت في رأسيهما: لم لا يكون لنيويورك مبنى مشابه يتميز بأنه الأعلى في العالم؟ وإذا كان الصرح البرشلوني مكرساً لعبادة الله القديم، لم لا نجعل من الصرح النييوركي معبداً مكرساً للإله الرأسمالي الجديد: المال، عبر جعله معلماً سياحياً ومركزاً فندقياً فريداً من نوعه؟

gettyimages-89866244-594x594.jpg

أنطونيو غاودي (غيتي)​​​​​​​

“دانتيلا” من أجل نيويورك

هكذا ولدت الفكرة، والتقى صاحباها الطموحان المعماري الكبير وجرى التوقيع على اتفاق أولي يقضي بأن يشتغل غاودي خلال الشهور المقبلة على تصميم المشروع الذي أتت فكرته من الأميركيين على ألا يقل ارتفاعه عن ثلاثمئة وستين متراً، وعلى أن يتخذ في سماته الشكلية الخارجية ما يحمل طابع غاودي الجمالي ليبدو أشبه ما يمكن بسمات “الدانتيلا” من خارجه. وهنا نتوقف قليلاً عن الحديث عن هذا المشروع الذي نعرف أنه لم يتحقق أبداً رغم أن تصميماته أعدت، بل حتى جُمعت من جديد حين أصيبت محفوظات غاودي بقصف دمرها جزئياً خلال الحرب الأهلية الإسبانية، لنعود إلى سؤالنا الأول الذي افتتحنا به هذا الكلام لتكون إجابتنا على أسئلته الافتراضية واضحة، ولكن افتراضياً أيضاً: لو أن غاودي أنجز هذا المشروع وارتفع بأعلى نقطة فيه كل تلك الأمتار عن سطح الأرض، كان من شأنه أن يكون منذ ذلك الحين ويبقى لأجيال تالية، وربما حتى الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) الشهير، أعلى مبنى في نيويورك ممثلاً نقطتها الأعلى… عندها ربما…. وربما فقط، كان من شأنه أن يفدي برجي التجارة بأعداد أقل من الضحايا وبردود فعل سياسية وعسكرية واجتماعية أقل زخماً! بمعنى أن غاودي كان من شأنه أن يغير مجرى التاريخ. لكنه لم يفعل لمجرد أن المشروع لم يكتمل! ولكن لماذا لم يكتمل المشروع، لماذا لم تحظ نيويورك بذلك الفندق؟

محاولة موؤدة

قبل أن نجيب عن هذين السؤالين الجديدين، لا بد أن نذكر أن المشروع الذي طواه قدر لا بأس به من النسيان منذ عام 1911، عاد إلى التداول بعد فترة من التدمير الإرهابي الذي طاول المدينة حيث، في خضم المسابقات التي أجريت لإعادة بناء شيء ما في الموقع الذي كان البرجان يشغلانه، طرح عدد من محبي هندسة غاودي فكرة بدت من فورها مجنونة ولكن ممكنة تقوم على العودة إلى المشروع القديم. لكن أحداً لم ير إمكانية ذلك بصورة منطقية، فعاد “فندق غاودي” إلى وهدة النسيان ولكن ليس على الورق حيث عاد من جديد فكرة تداعب الخيال، بخاصة أن تصاميم المعماري الإسباني الشهير وأوراقه لا تزالان موجودتين ومحفوظتين بكل زخمهما وكأنهما أُنجزتا، أمس، لتذكر دائماً بفندق كان من شأنه أن يبدو لو أُنجز أعجوبة من أعاجيب العصور الحديثة معوضاً على “ساغرادا فاميليا” التي لا تزال تعتبر أعجوبة إنما غير مكتملة حتى اليوم.

فندق وبضعة أشياء أخرى

في الحقيقة أن غاودي الذي كان قد أنجز لتوه مبنى “ميلا” الشهير، تحمس كثيراً للمشروع الأميركي وقد رأى فيه نوعاً من المزج بين أسلوبه القوطي البديع والرأسمالية الأميركية الناشئة، وهو إذ أُخبر على لسان مموليه الأميركيين أن في إمكانه أن يترك لخياله الإبداعي أن يتحرك كما يشاء شرط ألا يبتعد كثيراً عن الفكرة الأساسية التي تقوم في نقل “الساغرادا فاميليا” إلى وسط نيويورك ناقصة البعد الديني الإيماني، لم يتنبه أول الأمر إلى أن الحالميْن الأميركيين لا يملكان بعد قطعة الأرض التي يحتاجها المشروع. ويبدو أنهما كانا يريدان التصاميم لكي يحصلا على الأرض بفضلها. ولسوف يشتغل غاودي على تلك التصاميم أكثر من ثلاث سنوات اكتشف بعدها أنه إنما يشيد قصوراً على الرمال!

قاعة لرؤساء أميركا

في ذهن غاودي كان المشروع يختلف كثيراً، على أي حال، عن فكرة الفندق التي كانت سائدة حتى ذلك الحين. كان المشروع أكبر من ذلك بكثير. وحسبنا أن نذكر، مثلاً، تلك القاعة المركزية الضخمة التي كانت ستكرس لـ”استقبالات الرؤساء الأميركيين” بارتفاع مئة وعشرين متراً وذات جدران زجاجية وفسيفسائية حافلة بالرسوم الجدرانية التي تمثل تاريخ أميركا. وكذلك القاعات الخمس التي تشغل الطابق السادس من الفندق، بعد الطوابق الخمسة تحت الأرض، أي أول طابق فوق الأرض وتمثل القارات الخمس بزينتها وأبهتها وموقع الإنسان فيها. من خلال هذين الصرحين الداخليين الكبيرين كان غاودي ينظر إلى المشروع في بعده العالمي، ولنقل حتى “العولمي” الذي من شأنه، وقبل تحول نيويورك مع جعلها بعد عقود طويلة مقراً لمنظمة الأمم المتحدة، إلى عاصمة العالم ومحور كينونة قاراته الخمس ناهيك عن رصده التاريخ الأميركي بشكل يؤكد كوزموبوليتية هذا البلد بشكل مبكر. باختصار ومن دون الدخول هنا في تلك التفاصيل التي داعبت أحلام المعماري المكتهل والمتحدثة عن رغبته في أن يضم ذلك المجمع المازج بين قمة الفن المعماري كما خبره وتصوره طوال عقود كما حققه في عشرات المباني، كان واضحاً أن غاودي يحاول هنا استعادة أبهة البناء الكاتدرائي القوطي بالترابط مع أقصى درجات الحداثة ليس فقط كما كانت ماثلة أوائل القرن العشرين، بل كذلك كما ستمثل خلال العقود التالية من ذلك القرن… دون التغاضي عن فكرة أن يكون الفندق مركزاً للفنون من خلال قاعات مسرحية- ولكن ليس سينمائية فقاعات السينما كجزء من اللعبة الفنية لم تكن في البال بعد طبعاً، ولكن كانت ستلي ذلك بشكل مؤكد لو تحقق المشروع! كما من خلال قاعات عرض وبضعة متاحف وأسواق تجارية. كل ما داعب خيال غاودي نجده داخلاً في ذلك المشروع.

حبر على ورق

ولكن ذات يوم من عام 1911، وكان المبدع قد أنجز عشرات الخرائط ومئات التفاصيل سيكتشف غاودي، بشكل لا يمكننا اليوم تصوره، أن كل ذلك لم يكن سوى قبض ريح. فترك المشروع في وقت لم يعد الممولان يتصلان به مكتفيين من الغنيمة بالإياب، وراح هو يحاول من جديد الحصول على تمويل لمشروعه الأثير “ساغرادا فاميليا” الذي سيظل يؤرقه ويشغل باله حتى رحيله عام 1926 عن أربعة وسبعين عاماً، تاركاً إياه غير مكتمل ولكن بحظ أفضل من حظ نظيره النيويوركي الذي من ناحيته بقي حبراً على ورق.